ما معنى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}؟

السؤال:
نرجو إيضاح قول الله تعالى عن الكهنة ومن شابههم، الذين تركوا طريق الله وذهبوا إلى الشياطين؛ ليتعلموا منهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ الآية [البقرة:102]، كيف يكون ذلك؟ وهل يحدث ذلك الضرر للمؤمنين الفاسقين؟ وما طريق الوقاية من هذه الشرور والأضرار؛ حيث يروج كثير من الكهنة للعوام قدرتهم على ذلك؟

الجواب:
قد تكون هذه الطرق الخبيثة من خدمة الشياطين، وخدمة من تعاطى هذه الأمور، وصحبتهم لهم، وتعلمهم منهم من أنواع السحر، والكهنة والرمّالين والعرّافين، وغيرهم من المشعوذين؛ فيتعاطون هذه الأمور من أجل المال، والاستحواذ على عقول الناس، وحتى يعظمهم الناس فيقولوا: إنهم يعرفون كذا ويعرفون كذا.
وهذا واقع، والله يبتلي عباده بالسراء والضراء، ويبتلي عباده بالأشرار والأخيار؛ حتى يتميز الصادق من الكاذب، وحتى يتميز ولي الله من عدو الله، وحتى يتميز من يعبد الله، ويسعى في سلامة دينه، ويحارب الكفر والنفاق والمعاصي والخرافات، وبين من هو ضعيف في ذلك أو مخلد إلى الكسل والضعف.
 والله يميز الناس بما يبتليهم به من السراء والضراء، والشدة والرخاء، وتسليط الأعداء والجهاد؛ حتى يتبين أولياء الله من أعدائه المعاندين لدين الله، وحتى يتبين أهل القوة في الحق من الضعفاء والخاملين.
وهذا واقع لا شك فيه، والتوقي لذلك مشروع -بحمد الله- بل واجب، وقد شرع الله لعباده أن يتوقوا شرهم بما شرع سبحانه من التعوذات والأذكار الشرعية، وسائر الأسباب المباحة.
فقد قال النبي ﷺ: من نزل منزلًا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك[1] أخرجه مسلم في صحيحه.
وكما أخبر النبي ﷺ: أن من قال: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات في المساء لم يضره شيء حتى يصبح، ومن قالها ثلاث مرات في الصباح لم يضره شيء حتى يمسي[2]،
وكما أخبر النبي ﷺ: أن من قرأ آية الكرسي حين ينام على فراشه لم يضره شيء حتى يصبح. وهذا من فضل الله .
وأخبر ﷺ: أن من قرأ سورة (الإخلاص): (قل هو الله أحد)، وسورتي: (الفلق) و(الناس) ثلاث مرات عند نومه لم يضره شيء.
فهي من أسباب السلامة من كل سوء، إذا قرأها المؤمن عند النوم (ثلاث مرات) وهكذا بعد الصلوات الخمس، ويشرع تكرارها بعد صلاة الفجر والمغرب ثلاثًا، وذلك بعد أن ينتهي من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل. وذلك من فضل الله على عباده، وإرشاده لهم إلى أسباب العافية، والوقاية من شر الأعداء.
وهكذا من الأسباب الشرعية: الإكثار من الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فهي من أسباب السلامة والعافية؛ لقول النبي ﷺ: أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر[3]. أخرجه مسلم في صحيحه. وهكذا العناية بقراءة القرآن الكريم، والإكثار منها بالتدبر والتعقل والعناية بأمر الله بطاعته وترك معاصيه.
وهكذا الإكثار من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كلها من أسباب السلامة، وقد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال: من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب الله له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكان في حرز من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من عمله[4]. متفق على صحته.
ومما يجمع الخير كله للمسلم: العناية بكتاب الله، وسنة رسوله ﷺ قولًا وعملًا، والأخذ بما أوصى به الله عباده وأمرهم به في كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين؛ ومن ذلك أنه أوصى عباده بالتقوى وأمرهم بها في آيات كثيرة، ولاشك أن التقوى هي أعظم الوصايا؛ فهي وصية الله ، ووصية رسوله عليه الصلاة والسلام وهي جامعة للخير كله.
ومن جملة التقوى: العناية بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ تنزيل من حكيم حميد، وقد أوصى الله بذلك، فقال جل وعلا: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ  [الأنعام:155]، وقال جل وعلا: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۝ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:151-152]، ثم قال بعد ذلك: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
فقال: أولًا: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، ثم قال: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، ثم قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
والحكمة في ذلك -كما قال جمع من أهل التفسير-: إن الإنسان إذا تعقل ما خلق له وما أمر به، وما خوطب به، ونظر فيه وتأمله، حصل له به التذكر لما يجب عليه ولما ينبغي له تركه، ثم بعد ذلك تكون التقوى؛ بفعل الأوامر وترك النواهي؛ وبذلك يكمل للعبد العناية بما قرأ أو بما سمع، فإنه يبدأ بالتعقل والتذكر، ثم العمل وهو المقصود.
فالوصية بكتاب الله قولًا وعملًا تشمل: الدعوة إليه، والذب عنه، والعمل به؛ لأنه كتاب الله الذي من تمسك به نجا، ومن حاد عنه هلك، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ من حديث عبدالله بن أبي أوفى: أن النبي ﷺ أوصى بكتاب الله، وذلك حينما سئل عبدالله بن أبي أوفى: هل أوصى النبي ﷺ بشيء؟ قال: نعم، أوصى بكتاب الله، فالرسول ﷺ أوصى بكتاب الله؛ لأنه يجمع الخير كله.
وفي (صحيح مسلم)، عن جابر أن النبي ﷺ أوصى في حجة الوداع بكتاب الله، فقال: إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به: كتاب الله من تمسك به نجا، ومن أعرض عنه هلك، وفي (صحيح مسلم) أيضًا، عن زيد بن أرقم أن النبي ﷺ قال: إني تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور؛ فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به.
فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي؛ أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي[5].
فالنبي ﷺ أوصى بكتاب الله، كما أوصى الله بكتابه.
ثم الوصية بكتاب الله وصية بالسنة؛ لأن القرآن أوصى بالسنة وأمر بتعظيمها، فالوصية بكتاب الله وصية بسنة رسول الله ﷺ. وهما الثقلان، وهما الأصلان اللذان لابد منهما، من تمسك بهما نجا، ومن حاد عنهما هلك، ومن أنكر واحدًا منهما كفر بالله، وحل دمه وماله، وقد جاء في رواية أخرى: إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به: كتاب الله، وسنتي[6]. أخرجها الحاكم بسند جيد.
وقد عرفت -أيها المسلم- أن الوصية بكتاب الله والأمر بكتاب الله، وصية بالسنة وأمر بالسنة؛ لأن الله تعالى يقول: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56]، ويقول سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا الآية [الحشر:7]، ويقول أيضًا: مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80].
وهناك آيات كثيرة يأمر فيها سبحانه بطاعته، وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام.
والعلم النافع هو المتلقى عنهما والمستنبط منهما، فهذا هو العلم، فالعلم: قال الله سبحانه وقال رسول الله ﷺ وما جاء عن الصحابة ؛ لأنهم أعلم بكتاب الله وأعلم بالسنة؛ فاستنباطهم وأقوالهم يُعين طالب العلم، ويرشد طالب العلم إلى الفهم الصحيح عن الله، وعن رسوله عليه الصلاة والسلام ثم الاستعانة بكلام أهل العلم بعد ذلك: أئمة الهدى كالتابعين وأتباع التابعين ومن بعدهم من علماء الهدى، وهكذا أئمة اللغة، يستعان بكلامهم على فهم كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
فطالب العلم يُعنى بكتاب الله سبحانه ويُعْنَى بالسنة، ويستعين على ذلك بكلام أهل العلم المنقول عن الصحابة ومن بعدهم في كتب التفسير والحديث، وكتب أهل العلم والهدى؛ لكي يعرف معاني كتاب الله، فيتعلمه ويعمل به ويعلمه الناس؛ لما في ذلك من الأجر العظيم والثواب الجزيل، ومن ذلك قول الرسول ﷺ: خيركم من تعلم القرآن وعلمه[7]، وقوله ﷺ: من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة[8].
وقد حث الرسول ﷺ على المحافظة على كتاب الله وتدبر معانيه؛ لما في ذلك من الأجر العظيم، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام: من قرأ حرفًا من القرآن فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «اقرأوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه[9] خرجه مسلم في صحيحه.
وأصحابه: هم العاملون به، كما جاء في الحديث الآخر، وهو قوله ﷺ: يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة (البقرة) و(آل عمران) كأنهما غمامتان أو ظُلّتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حزقان من طير طواف، تحاجان عن صاحبهما[10] أخرجه مسلم في صحيحه.
والآيات والأحاديث في فضل القرآن والعمل به، وفضل السنة والتمسك بها كثيرة جدًا.
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أن يوفقنا والمسلمين للتمسك بكتابه، وسنة رسوله ﷺ، والعمل بهما، إنه جواد كريم[11].
 
  1. أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار)، برقم: 48810
  2. أخرجه أبو داود في سننه (كتاب الآداب)، برقم: 4425.
  3. أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الآداب)، برقم: 3985.
  4. أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب الدعوات)، برقم: 5942، ومسلم في صحيحه (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار)، برقم: 4857.
  5. أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب فضائل الصحابة)، برقم: 4425.
  6. أخرجه الحاكم في مستدركه برقم: 319.
  7. أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب فضائل القرآن)، برقم: 4639.
  8. أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب العلم)، ومسلم في صحيحه (كتاب الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر)، برقم: 4867.
  9. (صحيح مسلم بشرح النووي) 6/ 87.
  10. المرجع السابق: 6/ 79. 
  11. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 24/ 176).
فتاوى ذات صلة