وجوب العمل برؤية الهلال متى ثبتت شرعًا

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فقد اطلعت على ما نشرته صحيفة الندوة في عددها الصادر في يوم 23/8/1405هـ نقلًا عن الفلكي حبيب علوي الحسين من جزمه بأنه سيكون كسوف للشمس في ليلة الأثنين 30/8/1405هـ حسب توقيت أم القرى، وأنه لا تمكن رؤية الهلال تلك الليلة بسبب الكسوف، وأن أول رمضان سيكون يوم الثلاثاء... إلخ
ونظرًا إلى أن الرسول ﷺ قد علق إثبات الأهلة بالرؤية أو بإكمال العدة، وحكمه ﷺ يعم زمانه وما بعده إلى يوم القيامة؛ لأن الله بعثه إلى العالمين بشريعة كاملة لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه كما قال الله سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3].
وهو سبحانه يعلم ما يقع من الكسوف في كل زمان ولم يخبر عباده بما يجب عليهم اعتباره وقت الكسوف من جهة إثبات الأهلة، مع أنه سبحانه أخبرهم على لسان رسوله محمد ﷺ بما يشرع لهم وقت الكسوف من صلاة وغيرها.
ونظرًا إلى أن قول الفلكيين أن كسوف الشمس لا يكون إلا في آخر الشهر في ليالي استسرار القمر ليس عليه دليل يعتمد عليه، وتخالف من أجله الأحاديث الثابتة عن رسول الله ﷺ، وقد صرح جمع من أهل العلم بأن كسوف الشمس يمكن وقوعه في غير آخر الشهر، والله سبحانه على كل شيء قدير.
وكون العادة الغالبة وقوعه في آخر الشهر لا يمنع وقوعه في غيره، ونظرًا إلى أن بعض الناس قد يرتاب في العمل بالسنة بسبب أقوال الفلكيين، وقد يحمله ذلك على تكذيب البينة العادلة برؤية الهلال؛ رأيت التنبيه على هذا الأمر إيضاحًا للحق وكشفًا للشبهة ونصرًا للشريعة المحمدية ودفاعًا عن حكم الشريعة الإسلامية في هذا الأمر العظيم الذي يتعلق بجميع المسلمين.
فأقول: قد صحت الأحاديث عن رسول الله ﷺ بوجوب اعتماد الرؤية في إثبات الأهلة أو إكمال العدد، وهي أحاديث مشهورة مستفيضة عن رسول الله ﷺ في الصحيحين وغيرهما، وحكمه ﷺ لا يختص بزمانه فقط، بل يعم زمانه وما يأتي بعده إلى يوم القيامة؛ لأنه رسول الله إلى الجميع.
والله سبحانه أرسله إلى الناس وأمره أن يبلغهم ما شرعه لهم في إثبات هلال رمضان وغيره، هو العالم بغيب السماوات والأرض والعالم بما سيحدث بعد زمانه ﷺ من المراصد وغيرها، ويعلم سبحانه ما يقع من الكسوفات، ولم يثبت عن رسول الله ﷺ أنه قيد العمل بالرؤية بموافقة مرصد أو عدم وجود كسوف، وهو لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء لا فيما سبق من الزمان، ولا فيما يأتي إلى يوم القيامة، وقد قال النبي ﷺ: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وخنس إبهامه في الثالثة، والشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه العشر[1]، يرشد بذلك أمته عليه الصلاة والسلام إلى أن الشهر تارة يكون تسعًا وعشرين وتارة يكون ثلاثين.
وصح عنه ﷺ أنه قال: لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة[2]، ولم يأمر بالرجوع إلى الحساب، ولم يأذن في إثبات الشهور بذلك. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة صنفها في هذه المسألة كما في المجلد 25 من الفتاوى صفحة 132 إجماع العلماء أنه لا يجوز العمل بالحساب في إثبات الأهلة وهو رحمه الله من أعلم الناس بمسائل الإجماع والخلاف.
والأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ كلها تدل على ما دل عليه الإجماع المذكور. ولست أقصد من هذا منع الاستعانة بالمراصد والنظارات على رؤية الهلال، ولكني أقصد منع الاعتماد عليها، أو جعلها معيارًا للرؤية لا تثبت إلا إذا شهدت لها المراصد بالصحة أو بأن الهلال قد ولد. فهذا كله باطل.
ولا يخفى على كل من له معرفة بأحوال الحاسبين من أهل الفلك ما يقع بينهم من الاختلاف في كثير من الأحيان في إثبات ولادة الهلال أو عدمها، وفي أماكن رؤيته أو عدمه. ولو فرضنا إجماعهم في وقت من الأوقات على ولادته أو عدم ولادته لم يكن إجماعهم حجة؛ لأنهم ليسوا معصومين بل يجوز عليهم الخطأ جميعًا، وإنما الإجماع المعصوم الذي يحتج به، هو إجماع سلف الأمة في المسائل الشرعية؛ لأنهم إذا أجمعوا دخلت فيهم الطائفة المنصورة التي شهد لها رسول الله ﷺ بأنها لا تزال على الحق إلى يوم القيامة.
وأما الاحتجاج بالكسوف فمن أضعف الحجج؛ لأنه لا يوجد نص في كتاب الله عز وجل ولا من سنة رسول الله ﷺ يدل على أن الخسوف للقمر لا يقع إلا في ليالي الإبدار، وأن الكسوف للشمس لا يكون إلا في أيام الاستسرار كما يقوله بعض العلماء؛ بل قد صرح جمع من أهل العلم بأنه يجوز أن يقع في كل وقت، وذكر غير واحد منهم أنه يمكن وقوعه في يوم عيد الفطر وعيد النحر، وهذان اليومان ليسا من أيام الإبدار ولا من أيام الاستسرار فنقابل من قال: إنه لا يقع الخسوف إلا في ليالي الإبدار وأيام الاستسرار بقول من قال إنه يمكن وقوعه في كل وقت، وليس قول أحدهما بأولى من الآخر، وتسلم لنا الأدلة الشرعية ليس لها معارض، وليس في شرع الله سبحانه ولا في قدرته فيما نعلم ما يمنع وقوع الكسوف في كل وقت؛ لأن الله له القدرة الكاملة على كل شيء وله الحكمة البالغة في جميع ما يقدره ويشرعه لعباده، وقد أخبر نبيه ﷺ أن كسوف الشمس وخسوف القمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، والعباد في أشد الحاجة إلى التخويف والإنذار من أسباب العذاب في كل وقت وهذا المعنى نفسه من الأدلة الدالة على صحة قول من قال من العلماء بجواز وقوع الخسوف والكسوف في جميع الأوقات.
والرؤية لهلال شعبان ليلة السبت هذا العام ثبتت بشهادة عدلين، وحكم بثبوتها المجلس الأعلى للقضاء في المملكة العربية السعودية بهيئته الدائمة، فهي رؤية شرعية يجب الاعتماد عليها في الصوم والإفطار لموافقتها للأدلة الشرعية وبطلان ما يعارضها، وعليها يكون يوم الأثنين أول يوم من رمضان إلا أن يرى الهلال ليلة الأحد؛ للأحاديث السابقة، ولقول النبي ﷺ: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا[3]، ولقوله ﷺ: الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والضحى يوم تضحون[4] خرجه الترمذي وغيره بإسناد حسن، وأرجو أن يكون فيما ذكرته مقنع لطالب الحق وكشف للشبهة التي ذكرنا في صدر هذه الكلمة، والله سبحانه ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه[5].
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد
ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
 
  1. رواه البخاري في (الصوم) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا نكتب ولا نحسب " برقم 1913، ومسلم في (الصيام) باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال برقم 1080.
  2. رواه النسائي في (الصيام) باب ذكر الاختلاف على منصور برقم 2162.
  3. رواه البخاري في (الصوم) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا" برقم 1909. 
  4. رواه الترمذي في (الصوم) باب ما جاء في الصوم يوم تصومون برقم 697.
  5. رد لسماحته على ما نشرته صحيفة (الندوة) بتاريخ 23/8/1405هـ حول ما زعمه الفلكي حبيب علوي الحسين من جزمه بأنه سيكون كسوف للشمس ليلة الأثنين 30/8/1405هـ، ونشر في مجلة (البحوث الإسلامية) العدد 13، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 15/ 139).