أدبه وحسن عشرته

قال عبدالله بن المبارك - رحمه الله: "نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم". [1]
فالأدب مقدَّم على العلم، وما ارتفع إنسانٌ بالعلم وحده، بل لا بد أن يصحبه أدبٌ، فهما كجناحي الطائر.
وقديمًا كان السلف يطلبون الأدب قبل طلبهم للعلم، حتى قال ابن الجوزي - رحمه الله: "كاد الأدب يكون ثلثي العلم". [2]
وقد تفوَّق شيخنا - رحمه الله - على كثير من أقرانه بالأدب الجم، والأخلاق الرفيعة، فكثيرًا ما كان يتجاوز البعض في حقِّه ومع ذلك يعفو ويصفح، ولا يُفارقه أدبه الحسن وعشرته الطيبة، سواء في بيته مع أهله، وموظفيه، وزائريه، أو في سفره مع مرافقيه، وسواء في حال الصحة أو المرض.
ويمكن أن نتلمس هذا الأدب في تعامله مع الفئات الآتية:

تعامله مع أهله:
كان الشيخ - رحمه الله - يحرص على العدل بين زوجتيه، والإحسان إليهما، وإعطاء كل واحدة منهما حقها، حتى إنه كان يحرص في سفره على الاتصال بهما يوميًّا، والاطمئنان على أحوالهما، والتودد إليهما، بل ويُخبرهما أحيانًا بما فعل في يومه، وذلك على الرغم من كثرة مشاغله وتعدد مسؤولياته عملا بقول النبي ﷺ: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي[3].
تقول زوجته أم عبدالله: "كان يحرص - رحمه الله - على العدل دائمًا في كل الأمور، سواء في النفقة أو المبيت، وجميع الأمور، وكذلك في الحج؛ فكنتُ أحج معه سنة وهي سنة، وهكذا". [4]
وتقول زوجته الأخرى أم أحمد: "ما رأت عيناي مثل الشيخ - رحمه الله - في العدل، فوقته موزع بين المنزلين توزيعًا دقيقًا، لا يخلّ به مهما كانت الظروف، كما أنه - رحمه الله - لا تكاد تلمح منه أي ميل أو تفريق في المعاملة أو في النفقة، وكذا في معاملته لأولاده؛ فهو لا يُميز أحدًا على آخر، ذكورًا وإناثًا، وعدله - رحمه الله - يُعدّ بلا شكٍّ أهم الأسباب التي ساهمت في الجمع بين قلوب أبنائه وبين البيتين عمومًا". [5]
فكان - رحمه الله - محبًّا لزوجتيه ولأبنائه كافة، حريصًا على مشاعر الجميع، فلا يتلفظ بلفظ جارحٍ، أو يفعل شيئًا يُسيء إلى أحدٍ، وإن صدر من أحد أهله ما يُغضبه تغاضى عنه وعفا والتمس له العذر.
يقول الشيخ محمد الموسى: "أذكر في يوم من الأيام أنه كان يريد السفر في الطائرة، وتأخرت إحدى أسرتيه التي ستسافر معه في تلك الرحلة أكثر من ساعة، وتأخرت بسبب ذلك الطائرة التي تقله، ومع ذلك لم يَبْدُ على سماحته أي تضجرٍ أو سآمةٍ، بل كنا نقرأ عليه المعاملات دون انقطاع، وكلما مضى عشر دقائق أو ربع ساعة سأل: "هل جاؤوا؟" فإن قيل له: لا، واصل الاستماع.
ولما وصلوا لم يُبْدِ أي تضجرٍ، ولم تبدر منه أي كلمةٍ؛ لأنه يلتمس لهم المعاذير، ويعلم أنهم لم يتأخروا إلا لعارضٍ". [6]
وحرص الشيخ إذا عاد إلى بيته بعد أداء صلاة الفجر وإلقاء الدرس أن يدخل بهدوءٍ ورفقٍ؛ كي لا يُوقظ النائم، وإذا وجد بابَ منزله الداخلي مغلقًا طرقه برفقٍ، وربما يظل واقفًا لدقائق حتى يُفتح له. [7]
كما كان سماحته يوصي بالأهل، وحسن معاملتهم، ويُحذِّر من التقصير في حقوقهم، يقول الشيخ محمد الموسى: "في يوم من الأيام رنَّ الهاتف، فأخذ سماحته السماعة على غير العادة، وإذا هم أهلي يطلبونني، فناولني سماحته السماعة، وأخذ ينتظرني حتى أفرغ من المكالمة، وكنت حريصًا على الاختصار؛ لأن وقت سماحة الشيخ لا يسمح بالإطالة، والمجلس مليء بالحاضرين، وأهلي يعلمون ذلك، والذي حصل أن أهلي سألوني: هل ستتغدى معنا هذا اليوم؟ فقلت: لا. وبذلك انتهى الغرض، ووضعت سماعة الهاتف، فقال لي سماحة الشيخ: "انتهيت من المكالمة؟" قلت: نعم. فقال - رحمه الله: "ما هذا الجفاء؟! أهكذا تكلمون أهليكم؟! أسأل الله العافية". فقلت: يا سماحة الشيخ، المقصود قد انتهى، ولا أريد الإطالة؛ فالوقت لا يسمح. فقال: "لا حول ولا قوة إلا بالله، خيركم خيركم لأهله". [8]

ومن حسن معاملته لأبنائه: أنه كان يحترمهم، ويحنو عليهم، ويُحسن توجيههم برفقٍ وحكمةٍ، ويُكثر من الدعاء لهم، ويعدل بينهم، ويستجيب لدعواتهم، فكان يتغدَّى عند ابنه الأكبر عبدالله في اليوم الأول لعودته إلى الرياض قادمًا من الطائف، وفي اليوم الثاني يتغدى عند ابنه عبدالرحمن، ويتغدى اليوم الثالث عند ابنه أحمد، وكان إذا انتهى من غدائه دعا لهم، فيقول: "أنعم الله عليكم، وأكرمكم الله".
وقد جعل شيخنا لكل زوجةٍ من زوجتيه ولكل واحدٍ من أبنائه مصروفًا خاصًّا به، يُنفق منه على احتياجاته، فإن احتاج أموالًا أخرى أعطاه الشيخ بحسب حاجته ومدى أهميتها دون إفراطٍ أو تفريطٍ.
وكان - رحمه الله - يحرص على الاجتماع بجميع أبنائه شهريًّا، فيُخصص يومين في الشهر للذكور، ويومين للإناث، يُعلمهم فيها العلم الشرعي، ويُجيب عن أسئلتهم، ويطمئن على أحوالهم، هذا بخلاف تفقده لأحوالهم طيلة الأيام الأخرى، فلم يكن الشيخ يحتجب عنهم أو يُغلق بابه في وجه مَن أراد مقابلته والجلوس معه منهم. [9]
قال عنه ابنه أحمد: "كان الشيخ - رحمه الله - يتعامل معنا بلطفٍ ورفقٍ، فهو لا يفرض رأيه علينا فرضًا، بل يعرضه عرض الناصح المشفق، ولا يتعصَّب لهذا الرأي، وكان - رحمه الله - يُجالس أبناءه، ويتعرَّف على مشاكلهم، وقد خصص لنا بعض الوقت مساء للسمر والمحادثة، وكان يحرص على حثِّنا على الأعمال الخيرة، ورغم التواضع والبساطة إلا أن للشيخ مهابةً في نفوس أبنائه؛ نظرًا لما منحه الله من هيبةٍ، فقد كنا نخجل منه رغم بساطته وقربه منا رحمه الله". [10]

تعامله مع جيرانه:
عمل شيخنا - رحمه الله - بوصية جبريل عليه السلام للنبي ﷺ بالجار، فكان يُحسن إلى جيرانه، فيدعوهم إلى طعامه، ويفرح بهم إذا قدموا، ويقول لعُمَّاله: "ادعوهم، لعلهم يستحيون من المجيء إلينا"، ويسأل عن أحوالهم، ويساعد مَن احتاج منهم إلى مساعدةٍ، ويعود مريضهم، ويُصلِّي على ميِّتهم ويتبع جنازته، ويُسامح مَن اعتدى منهم على حقِّه، كما فعل مع جيرانه في الأرض الزراعية التي كان يملكها في الرياض، حيث تعدَّوا على أرضه فأخذوا جزءًا منها، فما كان منه - رحمه الله - إلا أن قال لما علم بالأمر: "عساهم راضين، عسى ما في خاطرهم شيء؟". [11]
كما حرص سماحته على توديعهم إذا أراد السفر، فكان يُسلِّم عليهم في آخر صلاةٍ يُصليها معهم في المسجد قبل سفره، ويُوصيهم بتقوى الله تعالى، سواء كان في الرياض أو مكة أو الطائف. [12]
وكان - رحمه الله - يُعين جيرانه على الخير، حيث كان إذا مشى إلى المسجد لأداء صلاة الفجر يحرص على طرق أبواب الجيران لإيقاظهم، يقول أحد الجيران: قبل خمسة عشر عامًا كنا نقوم لصلاة الفجر على صوت عصاه قبل صوت المؤذن. [13]
وحرص إلى آخر حياته - رحمه الله - على نفع جيرانه، فقد جاءه قبل موته بأيام أحدُ جيرانه في الطائف طالبًا منه أن يسعى في حلِّ مُشكلته المتمثلة في بُعْدِ مكان عمله عن بيته، حيث كان يعمل مدرسًا في مدينة بيشة، وأهله في الطائف، فأملى سماحة الشيخ رسالة شفاعةٍ بشأنه إلى وزير المعارف ليُنقل إلى عملٍ قريبٍ من بيته. [14]

تعامله مع العاملين معه:
أوصى النبي ﷺ بالإحسان إلى العُمَّال والخدم، فقال: إخوانُكم خَوَلُكم - أي خدمكم - جعلهم الله تحت أيديكم، فمَن كان أخوه تحت يده فليُطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تُكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلَّفتُموهم فأعينوهم[15].
لذلك كان سماحة الشيخ - رحمه الله - يُعامل العاملين معه معاملةً كريمةً، تقوم على الحب والاحترام، والنصح والإرشاد للخير، سواء كانوا مستشارين أو كُتَّابًا أو موظفي مكتبٍ أو سائقين أو خدمًا.
فكان يُشعرهم أنهم إخوانه، فيدعوهم إلى طعامه، ويُجلسهم على مائدته، ويتفقد أحوالهم، ويسألهم عن أهلهم وذويهم، ويُعطي كلَّ واحدٍ منهم حقَّه، ويحرص على إدخال السرور عليهم، فيُعطيهم أموالًا زيادةً عن أجورهم في الأعياد، ويُساعد مَن يحتاج منهم إلى مساعدةٍ، ويُبادر إلى توجيههم لتحصيل الخير، فمَن لم يكن متزوجًا نصحه بالزواج وقال له: "تزوج، ونحن نساعدك إذا كنتَ محتاجًا".
ولم يبخل عليهم - رحمه الله - بشيء كعادته مع الناس كافة ومن ذلك أنه يُلبسهم من ملابسه، فذات يوم باردٍ كان الشيخ صلاح الدين عثمان - أمين مكتبة منزل الشيخ - يسير مع شيخنا، وكانت ملابسه خفيفةً، فقال له الشيخ: "ما هذا؟ كيف تلبس هذا الثوب والبرد شديد كما ترى؟!" ثم قال له - رحمه الله: "انتظرني قليلًا"، فدخل منزله وأحضر عباءةً وأهداها له.
ومن باب إدخال السرور عليهم ومراعاة أحوالهم: أن سماحته كان يسمح لهم باستخدام الهاتف في الاتصال بزوجاتهم وأولادهم للاطمئنان عليهم، فذات يومٍ أراد أحدُ السائقين أن يتصل بأولاده خارج المملكة، فاستأذن أحدَ كُتَّاب الشيخ، فقال له: لا بد من الاستئذان من سماحته. فلمَّا تحدَّث الكاتب مع الشيخ في هذا الأمر قال الشيخ: "لعلك منعتَه؟" فقال الكاتب: لابد من إذن سماحتكم. فقال الشيخ: "اتركه يتصل، لا تمنعوهم، ارحموهم، أما لكم أولاد؟! أعوذ بالله، الرسول ﷺ يقول: مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم".
وإذا قدَّم أحدُ الخدم لسماحته طعامًا أو شرابًا كان سماحته يحرص على شكره والدعاء له، وإذا تحدَّث مع الطباخ أثنى على طعامه، وشكره على عمله، ولم يكن سماحته يعيب طعامًا قُدِّم له، بل كان يتبع هدي النبي ﷺ في ذلك؛ فإذا وُضع أمامه الطعام إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، وإن وجد في الطعام عيبًا - كأن يكون لم يُطْهَ جيدًا - فقصارى ما يقول: "إنَّهم لم يُحسنوا صنعته هذا اليوم".
تقول أم أحمد - زوجة سماحته: "منذ أن تزوجتُ الشيخ - رحمه الله - ما سمعته قطّ ينهر خادمًا ولا يعيب أكلًا، فما يُقدّم إليه إن اشتهاه أكله، وحمد الله عليه، وإلا تركه دون أن يعيب فيه، كما أنه - رحمه الله - اعتاد أن يُعطيهم علاوةً على أجورهم (مبالغ معينة) في الأعياد ونحوها؛ إدخالًا للبهجة في أنفسهم". [16]
ومن قصَّر منهم في عمله أو أساء، فإن كان ذلك في حق الشيخ سامحه، وربما نصحه برفقٍ ولطفٍ إن لزم الأمر، وإن كان تقصيره أو إساءته في حق غيره عاقبه الشيخ على قدر ذنبه دون إفراطٍ أو تفريطٍ، من ذلك: تأخر سائقه أحيانًا عن موعده المعتاد، فيلتمس له الشيخ العذر، وينتظره حتى يأتي بلا ضجرٍ أو مللٍ، فإن أتى ركب معه دون أن يُعاتبه أو يُوبِّخه، وإن لم يأتِ ركب مع غيره، فإذا قابله من الغد لم يُعاتبه.
وعلى الجانب الآخر: فقد أقال سماحتُه المسئول عن شئون بيته في المدينة النبوية من عمله -حين كان الشيخ يعمل في الجامعة الإسلامية ويقيم في المدينة- حيث جاء للشيخ ضيوف، وكانت لديه محاضرة خارج البيت، فأوصى المسئول عن شئون البيت بالاعتناء بضيوفه وإحسان ضيافتهم إلى أن يعود، ولكنه قصر في عمله؛ حيث ترك الضيوف ينامون بلا طعام. [17]
وكانت سياسته - رحمه الله - مع كُتَّابه تقوم على العدل بينهم في الوقت المخصص لكلِّ واحدٍ منهم، فلا يأخذ من وقت أحدهم إلا بإذنه، ويُعوِّضه عن ذلك بوقتٍ آخر، فإذا سمع من أحدهم معاملةً أو قرأ عليه قدرًا من كتابٍ انتقل إلى الثاني وسمع منه أيضًا معاملةً أو قدرًا مساويًا لمن سبقه، وهكذا.
وأحيانًا يُخصص لكلِّ واحدٍ منهم وقتًا يُحدده، كأن يجعل لكل واحدٍ منهم ربع ساعة، فإذا انتهوا بدأ بهم مرةً ثانيةً على نفس الترتيب السابق.
وفي مقابل هذه المعاملة الطيبة من سماحته كان العاملون معه يُحبونه حبًّا شديدًا، ويُجلُّونه إجلالًا كبيرًا، ويتفانون في أداء أعمالهم على الوجه الأكمل، بل لا تطيب نفوس بعضهم بالانصراف إلى منازلهم قبل الاطمئنان على سماحته وأنه قد دخل منزله.
يقول الشيخ عبدالرحمن بن دايل - أحد كُتَّاب سماحته - وقد عمل معه فترةً طويلةً: "لقد كنتُ أعمل معه ليل نهار، وأذهب منذ الصباح الباكر إلى المكتب، وأمكث فيه حتى منتصف الليل، ومع ذلك فأنا أشعر بانشراح صدرٍ، وإقبالٍ على العمل، ورغبةٍ في المزيد، مع أن عملنا معه مرهق جدًّا، إما قراءةً، أو كتابةً، أو إعداد معاملات، أو نحو ذلك، ومع أن إجازتي لما كنتُ مع سماحته في المدينة لم تكن إلا يوم الثلاثاء بعد العصر، وقد لا تحصل في بعض الأحيان". [18]

تعامله مع الأطفال والصبية:
كان الشيخ - رحمه الله - يمتلك قلبًا حانِيًا، ممتلئًا بالرحمة والرأفة على الصغير والكبير، محبًّا الخير للجميع، فإذا جاءه مَن يُسَلِّم عليه ومعه أطفال حرص سماحته على مصافحتهم، وسؤالهم عن أسمائهم ودراستهم، ثم يُتبع ذلك بسؤالهم عن دينهم، كأن يقول للواحد منهم: "مَن ربك؟ ما دينك؟ مَن نبيك؟ ما معنى: لا إله إلا الله؟" وهكذا، فإن أجابوا فبها ونعمت، وإلا لقَّنهم الشيخ الجواب، ودعا لهم بالبركة والصلاح، وربما نصحهم بالإقبال على طلب العلم الشرعي والالتحاق بكلية الشريعة.
يقول الأستاذ عبدالعزيز بن عبدالله الوهيبي: "في صيف العام الماضي 1419هـ ذهبتُ أنا والعائلة لأداء مناسك العمرة، واستقر بنا المقام بضعة أيام ضيوفًا عند أحد الإخوة الفضلاء في مدينة الطائف، وفي أحد الأيام ذهبنا لزيارة سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - في مقره بالطائف، فصلينا معه صلاة الظهر في مسجده (مسجد ابن باز)، وبعد الصلاة تشرفنا بالسلام عليه، ثم قلت له: معي أولادي يريدون السلام عليك يا سماحة الشيخ. فقال: "أين هم؟" ثم سلَّم عليهم، وكان الشيخ الرباني يسألهم عن حفظهم لكتاب الله، ويسأل الله لهم الهداية والصلاح، ولكن الشيخ - رحمه الله - توقف مع الابن الأصغر، وقال له بعد سؤالٍ عن اسمه: "في أي صفٍّ تدرس؟" فقال: في السنة الرابعة الابتدائية. فقال له الشيخ: "من ربك؟" قال الابن: ربي الله. ثم قال له الشيخ: "من نبيك؟" فقال الابن: نبيي محمد ﷺ. ثم قال له الشيخ: "ما دينك؟" فقال الابن: ديني الإسلام. فقال له الشيخ: "لماذا خلقتَ؟" فسكت الابن، فقال له الشيخ: "قل: لعبادة الله". ثم قال له الشيخ: "ما الدليل على ذلك؟" فسكت الابن، فقال له الشيخ: "قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]". [19]
وكان من بركة دعاء الشيخ لهم أن توجَّه عددٌ منهم إلى طلب العلم الشرعي، حتى أصبح منهم الدعاة والعلماء، يقول الشيخ محمد الموسى: "إني أعرف عددًا من طلاب العلم كان سبب توجّههم إلى طلب العلم الشرعي أن سماحة الشيخ نصحهم بطلب العلم، وملازمة العلماء، والتفقه في الدين، والالتحاق بكلية الشريعة، أو المعهد العالي، أو بالشيخ فلان". [20]
كما أتاح سماحة الشيخ - رحمه الله - الفرصة للفتيان للمشاركة في مجالس العلم، وقراءة ما تيسر من الآيات أو الأحاديث، بل والتعليق على ما قرأوا بما لديهم من علم، وكان الشيخ يُسَرُّ بذلك، ويُشجعهم على مواصلة طلب العلم، يقول الأستاذ توفيق بن عبدالعزيز السديري - الوكيل المساعد للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد: "أذكر ذات مساء وكنتُ ابن ستة عشر عامًا تقريبًا، وكنا في مناسبة اجتماعية، فاستأذنتُ من الشيخ وقرأتُ بين يديه حديث بدأ الإسلامُ غريبًا[21]، وذكرتُ بعض ما يدل عليه هذا الحديث، وربطته بالواقع المعاصر للمسلمين، فسُرَّ الشيخ كثيرًا بالرغم من حداثة سني، وتقبَّل بصدر رحبٍ ما قلتُ، وعلَّق عليه تعليقًا مفيدًا، ولم يستنكف وهو العالم الكبير أن يُلقي بين يديه فتى غِرٌّ ليس له من التجربة والعلم ما يُؤهله لحضور مجلس الشيوخ، فضلًا عن الكلام بين يديه، بل إنه - رحمه الله - اغتبط بذلك، ودعا لي، وحدثني على المواصلة في طلب العلم". [22]

تعامله مع عامة الناس:
من الصفات الطيبة والأخلاق الحسنة التي تميز بها الشيخ - رحمه الله - الإحسان إلى الناس، والرفق بهم، وإنزالهم منازلهم، وتحمل أذاهم، ومراعاة مشاعرهم، وعدم التميز عليهم في جلسةٍ أو ملبسٍ أو غير ذلك، فلا يكاد الآتي إليه لأول مرة يُميِّزه من الناس، فهذا رجل جزائري قدم إلى مكة للحج، وأراد أن يسأل عن مسألةٍ ما، فأتى إلى مجلس الشيخ دون أن يعرف أن هذا هو مجلس الشيخ ابن باز، فلما دخل قال للدكتور الشويعر: أريد السؤال. فقال له: هذا الشيخ أمامك فاسأله، قال: ما اسمه؟ قال: الشيخ عبدالعزيز بن باز. فتعجب الرجلُ من بساطة الشيخ وسهولة رؤيته والوصول إليه رغم مكانته العالية ومنزلته الرفيعة، فقال للدكتور الشويعر: سبحان الله! هذا الشيخ ابن باز الذي نسمع عنه ونتمنى رؤيته، وبدون حجاب ولا حراس!. [23]
هكذا كان - رحمه الله - فهو يُراعي مشاعر الناس، ويسعى لإرضائهم وتطييب قلوبهم في غير معصية الله، وما أكثر الدعوات التي كانت تُوجَّه لسماحته - سواء كانت دعوات زواج أو غيرها - فيُجيبها، حتى وإن كان مريضًا أو متعبًا أو مشغولًا، ومن ذلك إجابته لدعوة أحد المشايخ لحضور حفل زواج في مساء يوم عاشوراء، وكان مكان الحفل يبعد عن منزل شيخنا بنحو أربعين كيلو تقريبًا، وكان الشيخ صائمًا في هذا اليوم، ومع ذلك حرص سماحته على الحضور وتلبية الدعوة رغم ما تحمّله من مشقة في سبيل ذلك، حتى إنه لم يرجع إلى بيته إلا الساعة الثانية عشرة والنصف ليلًا. [24]
كما حرص شيخنا كذلك على الصبر على أذى الناس، وتحمّل ما قد يقع من بعضهم من تجاوزات في حقِّه، فكثيرًا ما يزدحم مجلس الشيخ ويقترب بعضُ الناس منه كثيرًا، وربما ضيَّقوا عليه النَّفَس، ومع ذلك لا ينهرهم أو يُوبّخهم، وغاية ما يقول لهم: "ابتعدوا قليلًا".
وأحيانًا توجد من بعضهم روائح غير طيبة -خاصةً القادمين منهم من أماكن بعيدة- فيتحملهم الشيخ، ولا يُشعرهم بذلك.
ورغم طول فترة جلوس الشيخ في المجلس لقضاء حوائج الناس، وكذلك أثناء إلقاء الدروس ونحوها، إلا أنه - رحمه الله - لم يكن يمد رجليه أبدًا؛ أدبًا منه واحترامًا للجالسين معه، رغم أن الأطباء أوصوه بعد إصابته في ركبته سنة 1414هـ بأن يتخذ متكئًا يمد عليه رجله. [25]
وفي الحج يزدحم الناس على الشيخ، سواء في خيمته بمنى أو في السيارة التي يركبها في الطريق أو أثناء المناسك، فيصبر على ذلك، ويوصي العاملين معه بالصبر واحتساب الأجر عند الله سبحانه. [26]
وبعد، فهذا غَيْضٌ من فَيْضٍ مما تمتع به شيخنا من أدبٍ جمٍّ وحسن معاملة، ولو جعلنا نبحث ونستقصي في ذلك لاحتجنا إلى مجلدٍ كبيرٍ، ولكن حسب المقتدي بسماحته والمقتفي أثره ما تقدم من إشاراتٍ تدل على المقصود، ونسأل الله تعالى أن يُجزل له المثوبة، وأن يُلحقنا به على خير.
 
  1. مدارج السالكين، لابن القيم (356/2).
  2. صفة الصفوة، لابن الجوزي (145/4).
  3. أخرجه الترمذي (3895)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (575/1).
  4. موسوعة إمام المسلمين في القرن العشرين، لعبدالعزيز أسعد (49،48/1).
  5. المصدر السابق (50،49/1).
  6. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (227،226).
  7. ينظر: المصدر السابق (180).
  8. المصدر السابق (227).
  9. ينظر: المصدر السابق (229،228)، والإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (362)، وسيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (22/1).
  10. موسوعة إمام المسلمين في القرن العشرين، لعبدالعزيز أسعد (38،37/1).
  11. ينظر: الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (177،176).
  12. ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (230).
  13. ينظر: سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (251/1).
  14. ينظر: عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (756،755).
  15. متفق عليه؛ البخاري (30)، ومسلم (1661).
  16. موسوعة إمام المسلمين في القرن العشرين، لعبدالعزيز أسعد (51/1).
  17. ينظر: القول الوجيز، لعبدالعزيز الباز (26،25).
  18. ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (231-237).
  19. سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (216،215/1).
  20. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (244،243).
  21. أخرجه مسلم (145).
  22. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (183).
  23. ينظر: عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (735،734).
  24. ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (177،176).
  25. ينظر: المصدر السابق (176-180).
  26. ينظر: المصدر السابق (108).