رفقه وسماحته

لقد عُرف الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - بالرفق وسماحة النفس وكان متأسيًّا في ذلك بأرفق الخلق ﷺ الذي روى عنه أنه قال: إنَّ الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه[1]، وقال أيضًا: من يحرم الرفق يحرم الخير كله[2]، فكان سماحة الشيخ مثلًا رفيعًا في تطبيق هذا الخلق الكريم بين أقرانه وطلابه وكل من يحيطون به.
 يقول الشيخ عبدالرحمن بن يوسف الرحمة: "كان ابن باز - رحمه الله - مطبقًا للرفق بكل حذافيره وأنواعه، رفق بالناس ورفق بالعلماء وطلبة العلم ورفق بالحكام والمسؤولين ورفق بالمدعوين والدعوة، كان - رحمه الله - لا يحب العنف ويكرهه ولا يحبذه، حتى في غضبه لا تسمع منه كلمة نابية، أو جملة شاذة فظة غليظة، بل أشد ما لديه: سبِّح سبِّح". [3]
ويقول الشيخ ناصر بن مسفر الزهراني: "لقد عرف عن سماحة الشيخ الحلم، والتواضع، والعطف، والشفقة، والبساطة، وحب الخير، ولين العريكة؛ فلم يكن يعنف أحدًا، ولم يكن يقابل الإساءة بالإساءة بل يعفو، ويصفح، ويقابل الإساءة بالإحسان، ولم أسمع منه طيلة ست عشرة سنة كلمة تُعاب، بل كان دأبه الرفق، والرحمة بالناس، وبمن يعملون معه". [4]
ولقد زخرت حياة سماحة الشيخ بعددٍ كبيرٍ من القصص الرائعة والمواقف العظيمة التي ترسم لنا مدى رفقه وسماحته مع الآخرين، وفيما يلى نذكر بعضًا من هذه المواقف المشرقة:
 
1- رفقه مع المخالف:
يقول الدكتور محمد بن سعد الشويعر: "كنت في إحدى السنوات في مجمع الفقه بمكة، وكنت جالسا بجانبه، وجاء موضوع يتحدث عن علو الله تعالى واستوائه على عرشه كما جاء في الأسماء والصفات، وكان الشيخ يتحدث في هذا، فقام شخص من إحدى الدول الإفريقية متجنيًّا ومتعصبًا ليدخل في إثارة سماحته للحديث عن الوهابية: وأنتم الوهابية تقولون كذا وتقولون كذا حول استواء الله على عرشه ... عندها كان سماحة الشيخ يحاول تهدئته، والرجل يتحدث ويواصل، فكان الشيخ يقول: هداك الله يا شيخ فلان، هداك الله يا شيخ فلان...سبِّح سبِّح - أي: سبِّح الله - وهذه أشد كلمة عنده تجاهه، وعندها طلب مني سماحته أن أسجل اسم كتابين ألفهما علماء المالكية - والمالكية هي المذهب الذي ينتمي إليه ذلك الرجل - وقال سماحته: أمِّن من هذا الكتاب ثلاثين كتابًا، فقمنا في اليوم الثاني بتوزيعه في المجمع الفقهي، ثم قال سماحته: إن الكتاب هذا من تأليف علماء المالكية، وقال: إن وجد في كلامهم ما يخالف كلامنا وكلام الإمام مالك فإننا نرحب بذلك، وبذلك قام بإقناع ذلك الرجل دون إثارة، وبطريقة عرفها الرجل. [5]

2- رفقه بعوام الناس:
يُذكر أن رجلًا من الأعراب المعروفين بالجفاء جاء مرة وهو يصيح ويقول صارخًا بأعلى صوته: أين ابن باز؟ أين ابن باز؟ فسمعه الشيخ وهو يتدثر عباءته القديمة، وبكل تواضع ورفق ردَّ عليه قائلًا: أنا ابن باز، نعم .. ماذا تريد؟ فيدنو منه الأعرابي ويعطيه مبلغا من المال، ويخبره أنها كفارة يمين، ويؤكد عليه بشدة أن يصرفها في وجهها، والشيخ مرخيا رأسه وهو يبتسم، ويأخذ منه المال ويضعه في جيبه، فأي رفقٍ هذا الذي تحلى به هذا الشيخ. [6]
ويذكر الشيخ على بن عبدالعزيز الشبل: "مرة دخل عليه في مجلسه في داره أعرابي غليظ الطبع، فأغلظ على الشيخ في الكلام والإلحاح، والشيخ مطرق إليه رأسه لا يزيد أن يقول له تفضل اجلس.. مرارًا، ثم لما جلس وأعلمه ما يحتاج له، زاد إلحاحه عليه، فلم يفتأ شيخنا أن يلح عليه بالتسبيح وهو يحوقل ويسترجع وذلك لا يرعوي، فبلغ الشيخ معه مبلغه فقال: أقول لك سبح الله يهديك! ". [7]
ويقول الشيخ عبدالعزيز بن ناصر البراك: "دخل رجل عنده قضية في الصباح الباكر والشيخ يُدَرِّس للطلاب في الجامع، فوقف هذا الرجل عليهم وأخذ ينادي بصوت مرتفع قائلًا: قم افصل بين الناس، قم افصل بين الناس واترك القراءة، فلم يزد الشيخ على أن قال: قم يا عبدالله بن رشيد وأخبره يأتينا عندما نجلس للقضاء بعد الدرس". [8]
ومن القصص المؤثرة التي تدل على رفقه ولينه وحلمه: ما ذكره الشيخ عبدالعزيز السدحان: "أن رجلا كفيفًا سأل الشيخ عمن قام وزاد ركعة في المغرب، وأراد الشيخ من السائل زيادة إيضاح لحال المصلين أثناء قيام الإمام، فظن الرجل أن الشيخ بدأ في جوابه، فقال: اصبر يا شيخ، فأعاد السائل سؤاله، فأراد الشيخ أن يستفصل عن جزئية من السؤال، فقال الرجل: لا تتعجل يا شيخ، اصبر أنت مفتٍ، لا تتعجل حتى تفهم السؤال كاملا، وردد ذلك مرات، ومع هذا كله صمت الشيخ صمتًا كاملا حتى أعاد الرجل سؤاله كاملا". [9]

3- رفقه بطلاب العلم:
فمن القصص المشرقة التي تبين لنا رفق شيخنا - رحمه الله - بالمتعلمين ما كتبه الشيخ الدكتور علي الشبل، فقال: "أنَّ طالبًا أعجميًّا من طلاب العلم قرأ على الشيخ بكتاب التوحيد للإمام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - ضمن قراءات في مطولات الكتب وكبارها، وكان الطالب ثقيل اللسان، بطيء الإعجام، فلا يعدو شيخنا أن يعلمه القراءة وتصحيح المتن بتكراره عليه جملة جملة، حتى ينتهي من الباب، فيعيده عليه الشيخ - رحمه الله - بعده كله ليقرر عليه ما يفتح الله عليه به من الفقه والاستدلال والشرح والتعليق". [10]
يقول الشيخ عبدالرحمن بن يوسف الرحمة: "وأذكر لشيخنا أنه سُئل عن حكم سجود التلاوة، فقال: سنة مؤكدة، وسأله آخر عن السؤال نفسه، فقال: سنة مؤكدة، بل سأله ثالث - ولعله لم يسمع الإجابة كالذي قبله - فأعاد الشيخ الإجابة بطيب نفسٍ، ولم يكبت السائلين". [11]

4- رفقه عند توجيه النصيحة:
يقول الشيخ محمد عبدالستار: "ولعلي لا أنسى موقفًا حدث له مع أحد الزملاء، عندما أخبره مرافق الشيخ أن هذا الزميل يضع في إصبعه خاتمًا من ذهب، فما كان من فضيلته إلا أن تحدث إلى هذا الزميل بلغة هادئة ومحببة مبينًا له فيها حكم الشرع في استخدام الذهب للرجال بطريقة لا تخلو من الود، الأمر الذي جعل زميلنا يسارع على الفور بخلع خاتم الذهب من إصبعه ويتقدم بخالص الشكر لفضيلته على هذه النصيحة الثمينة". [12]

5- رفقه بالمغضب:
ذكر الشيخ عبدالله بن محمد المعتاز: "أن رجلًا دخل على سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز وهو غضبان يرغي ويزبد ويرعد، فما كان من سماحته إلا أن هدأه ومسح على رأسه بكل حنان ولطف وأدب، وأخذ يقول له: سبِّح سبِّح، اذكر الله، استعذ بالله من الشيطان الرجيم. حتى هدأ الرجل وذهب عنه الغضب، فأعطاه حاجته". [13]
ويقول ناصر الزهراني: "في مرة من المرات أساء الأدب معه بعض الوافدين من الذين يؤويهم الشيخ ويقيمون تحت رعايته وكفالته، فجاءه في أيام إجازة وعيد وأخذ يرفع صوته ويخاصم في مجلس الشيخ، ويقول: لماذا ما أنهيتم إجراءات إقاماتي، فقال الكاتب: يا شيخ هذا طبعه دائمًا صدره ضيق، ومماحكاته كثيرة، فلم يزد الشيخ على أن قال: هؤلاء مساكين وأغراب ولا يعرفون مصطلحاتكم، فارحموهم وارفقوا بهم وتحملوهم، ألم تسمعوا بقول النبي ﷺ: اللهم مَن وُلِّيَ من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به، ومَن وُلِّيَ من أمرهم شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه[14]

6- رفقه بكبار السن:
يقول الدكتور محمد بن سعد الشويعر: "أما كبار السن من خارج المملكة ممن لحقتهم الأضرار: صحيًّا وماديًّا نتيجة أوضاع في بلادهم سلبتهم ممتلكاتهم ولوحِقوا، وأودع بعضهم السجن، فهربوا من بلادهم، ووجدوا الملجأ والأمن وتعلم أمور الدين، ويسر أداء حق الله في العبادة في المملكة، وهم في الغالب من القارة الأفريقية؛ فإن هؤلاء يكثرون في مكة؛ لأنهم يجدون في كنف الدولة واهتمام الشيخ عطفًا عليهم لكبر السن، ولما وصلوا إليه من الحاجة والعوز، فيخفف عنهم الوطأة، ويمدهم بما يستطيع، ويقابلهم بأدب الإسلام الرفيع، ووفق أعمال رسول الله ﷺ مع أمثالهم، ويشفع لهم لدى الجهات المختصة بالإقامة والإعانة والعلاج لمن هو في حاجة للعلاج.
وعندما يأتي إلى مكة ويزوره هؤلاء أو الدعاة من ديارهم، فإنه يتلقاهم بالبشاشة وطلاقة الوجه، والسؤال عن أحوالهم، ومدهم بما يسهل أمورهم، ويريح نفوسهم، ولا يضجر من كثرة ترددهم، بل يحث من حوله على تيسير الأمور، وتسهيل كل ما يتعلق بهم، ويدعوهم إلى الطعام في بيته، ولا يفرق بين جنس وجنس، ولا دولة عن غيرها، لكن المهم عنده أنهم أصحاب نعمة زالت، وكبار سن ظلموا، فيجب أن يجبر خواطرهم، ويشعرهم باهتمامه بهم، وسد فجوات في حاجاتهم الشخصية والأسرية.. ويحث من حوله بقوله: إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم، الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء". [15]

7- رفقه وقبوله الأعذار:
قال الأستاذ عبدالكريم المقرن: "لقد كان سماحته - رحمه الله - يقدر ظروف الآخرين، ويقبل منهم الأعذار، فذات مرة كان لنا موعد مع سماحته بعد صلاة العشاء - كما هي العادة - لتسجيل حلقة من برنامج (نور على الدرب)، وكان سماحته متهيئا للتسجيل، فاتصلت بالزميل فهد العثمان قبل الموعد لأخبره بظرف طرأ لي، وطلبت منه أن يعتذر لي عند سماحته، فأخبر الزميل فهد العثمان سماحة الشيخ بظرفي الطارئ، فقال سماحته: لا بأس، نعطيكم موعدًا آخر. وكان هذا في أيام الشتاء". [16]

8- رفقه بمن أخطأ في حقه:
ويقول الشيخ عبدالعزيز بن ناصر البراك: "من المواقف التي تبرز حلمه وسعة علمه وشفقته على الناس، أنه دخل عليه في مجلس القضاء في الدلم رجلٌ كثير السِّباب؛ فسبَّ الشيخ وشتمه، والشيخ لا يرد عليه، وعندما سافر الشيخ عبدالعزيز إلى الحج توفي هذا الرجل فجهِّز للصلاة عليه في جامع العذار - وكان إمامه أنذاك الشيخ عبدالعزيز بن عثمان بن هليل - فلما علم أنه ذلك الرجل تنحى وامتنع عن الصلاة عليه، وقال لا أصلى على شخص يشتم الشيخ ابن باز بل صلوا عليه أنتم، فلما عاد الشيخ عبدالعزيز بن باز من الحج وأُخبر بموت ذلك الرجل ترحم عليه، وعندما علم برفض الشيخ ابن هليل الصلاة عليه قال: إنه مخطئ في ذلك، ثم قال: دلوني على قبره؛ فصلى عليه، وترحم عليه، ودعا له". [17]

9- رفقه بالمستفتيين:
يقول عبيدالله محمد أمين كردي: "كان لقاء ما قبل الأخير معه في مسجد ابن عباس في الطائف انتهى بأني تعلمت منه - رحمه الله - وجزاه خير الجزاء جانبًا خلقيًّا، عاهدت نفسي أن أتمثله، وأروض نفسي عليه بقية حياتي، ألا وهو أن أزيد ترفقًا كلما زاد محدثي حدة، لأن حواري معه كان عن زكاة الفطر والأصناف التي يجب إخراج الزكاة منها فلاحظت أنه كلما زادت حدتي معه يلاطفني بدعاء الهداية للجميع مع ابتسامة لها سموها الخلقي ومعناها التربوي، وبعد ذلك الحوار لم ألتق به إلا بعد خمس سنوات في المسجد الحرام بمكة المكرمة، فتقدمت إليه وسلمت عليه، وكانت المفاجأة بالنسبة لي حيث ردَّ على السلام باسمي، فخمس سنوات كاملة لم ينس فيها صوتي مما أكد لي حافظته العظيمة التي منحه الله إياها. [18]
وفي نهاية الحديث عن رفق الشيخ ينبغي أن نعلم أن ما ذكر هو مجرد أمثلة وليست كل مواقف الشيخ، حيث إن المقام لا يتسع لذكر جميع مواقف سماحة الشيخ المربي، فرحمه الله رحمة واسعة، وأعلى مكانته في الجنة.
  1. رواه مسلم: (2594).
  2. رواه أبي داود: (4809).
  3. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، عبدالرحمن بن يوسف الرحمة (186).
  4. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، ناصر بن مسفر الزهراني (79).
  5. جريدة الرياض- عدد: (11295)، بواسطة: الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، عبدالرحمن بن يوسف الرحمة (187).
  6. جريدة المدينة - عدد: (13174)، بواسطة المصدر السابق: (187-188).
  7. جريدة اليمامة - عدد: (1556)، بواسطة: مواقف مضيئة في حياة الإمام بن باز، حمود بن عبدالله المطر (26).
  8. ابن باز في الدلم قاضيًّا ومعلمًا، عبدالعزيز بن ناصر البراك (33).
  9. مجلة الدعوة: (1694)، بواسطة:الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، عبدالرحمن بن يوسف الرحمة (188).
  10. مجلة الدعوة: (1693)، بواسطة: الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (189).
  11. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، عبدالرحمن بن يوسف الرحمة (318).
  12. مجلة العالم الإسلامي- عدد (4) بتاريخ: 8/2/1420هـ، بواسطة: مواقف مضيئة في حياة الإمام بن باز، حمود بن عبدالله المطر (76).
  13. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، عبدالرحمن بن يوسف الرحمة (187).
  14. مواقف مضيئة في حياة الإمام عبد العزيز ابن باز، لحمود المطر (182).
  15. عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (704،703).
  16. اللآلئ السنية في أخبار مفتي عام المملكة العربية السعودية، لعبدالكريم بن صالح المقرن (30).
  17. ابن باز في الدلم قاضيًّا ومعلمًا، عبدالعزيز بن ناصر البراك (33).
  18. مجلة البلاد- عدد: 15647، بواسطة: مواقف مضيئة في حياة الإمام عبدالعزيز بن باز، حمود بن عبدالله مطر(14).