تصوره لحكم الدعوة .. موضوعها .. أهدافها .. وسائلها

حكم الدعوة:
كان - رحمه الله - ينظر إلى الدعوة إلى الله كواجب من أهم الواجبات، لابد من القيام به، وأدائه على أكمل وجه، وكان ينظر إلى نفسه أنه مسؤول عن هذا الواجب، ولذا لم يتوان أو يتكاسل في تبليغه للناس بشتى الوسائل الممكنة.
فمن أقواله في حكم الدعوة، يقول - رحمه الله:
"أما حكمها: فقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الدعوة إلى الله ، وأنها من الفرائض، والأدلة في ذلك كثيرة..." [1].
ثم يقول: "وصرح العلماء أن الدعوة إلى الله فرض كفاية، بالنسبة إلى الأقطار التي يقوم فيها الدعاة، فإن كل قطر وكل إقليم يحتاج إلى الدعوة وإلى النشاط فيها، فهي فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين ذلك الواجب، وصارت الدعوة في حق الباقين سنة مؤكدة، وعملا صالحًا جليلًا.
وإذا لم يقم أهل الإقليم، أو أهل القطر المعين بالدعوة على التمام، صار الإثم عاما، وصار الواجب على الجميع، وعلى كل إنسان أن يقوم بالدعوة حسب طاقته وإمكانه، أما بالنظر إلى عموم البلاد، فالواجب: أن يوجد طائفة منتصبة تقوم بالدعوة إلى الله جل وعلا في أرجاء المعمورة، تبلغ رسالات الله، وتبين أمر الله بالطرق الممكنة، فإن الرسول ﷺ قد بعث الدعاة، وأرسل الكتب إلى الناس، وإلى الملوك والرؤساء ودعاهم إلى الله ". [2]
"وبهذا يعلم أن كونها فرض عين، وكونها فرض كفاية، أمر نسبي يختلف، فقد تكون الدعوة فرض عين بالنسبة إلى أقوام وإلى أشخاص، وسنة بالنسبة إلى أشخاص وإلى أقوام؛ لأنه وجد في محلهم وفي مكانهم من قام بالأمر وكفى عنهم.
أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ومن لهم القدرة الواسعة، فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار، حسب الإمكان بالطرق الممكنة، وباللغات الحية التي ينطق بها الناس". [3]
وانطلاقًا من هذه الثوابت الأساسية التي يرتكز عليها فكر سماحته ونظرته إلى وجوب الدعوة إلى الله على كل مسلم حسب استطاعته وقدراته، من هذا المبدأ نجد سماحته بعلمه وورعه وإيمانه كان صاحب الباع الأطول في هذا المضمار، وليس أدل على ذلك من إسلام عدد كبير على يديه، ونشاطاته المتنوعة في ميدان الدعوة التي اتسمت بالوعي الكامل والدراية التامة بواقع الدعوة الراهن، وما يواجهها من تحديات، وكذلك إدراكه العميق للأساليب التي تتناسب مع هذا الواقع. [4]

موضوع الدعوة:
أما موضوع الدعوة عنده - رحمه الله - الذي دعا إليه وأكد عليه، وأوضح معالمه وحددها فهو الدعوة إلى الإسلام، صراط الله المستقيم، الدين الحق القويم، الذي ذكره الله بقوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل:125].
فسبيل الله جل وعلا هو الإسلام، وهو الصراط المستقيم، وهو دين الله الذي بعث به نبيه محمدًا ﷺ، هذا هو الذي تجب الدعوة إليه لا إلى مذهب فلان ولا إلى رأي فلان، وهو ما دل عليه القرآن العظيم والسنة المطهرة الثابتة عن رسول الله ﷺ من الدعوة إلى الإخلاص لله وتوحيده بالعبادة، والإيمان به وبرسله، والإيمان باليوم الآخر، وبكل ما أخبر الله به ورسوله، الذي هو أساس الصراط المستقيم وهو الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويدخل في ذلك الدعوة إلى الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله مما كان وما يكون من أمر الآخرة، وأمر آخر الزمان، وغير ذلك.
ويدخل في ذلك أيضًا الدعوة إلى ما أوجب الله من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت إلى غير ذلك.
ويدخل أيضًا في ذلك الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ بما شرع الله في الطهارة والصلاة والمعاملات والنكاح والطلاق والجنايات والنفقات والحرب والسلم وفي كل شيء؛ لأن دين الله شامل يشتمل مصالح العباد في المعاش والمعاد ويشمل كل ما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ودنياهم، ويدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وينهى عن سفاسف الأخلاق وعن سيء الأعمال، فالدعوة عبادة وقيادة، عبادة وحكم، عبادة وجهاد، ومصحف وسيف، وسياسة واجتماع، كما أنها دعوة إلى الأمانة والحكم بالشريعة، كما أنها سياسة واقتصاد. [5]

الهدف من الدعوة:
حدد الشيخ - رحمه الله - الهدف الأسمى للدعوة تحديدًا دقيقًا واضحًا، يتضح ذلك من خلال استقراء ما كتبه في هذا المجال، ومن ذلك قوله - رحمه الله:
"فالمقصود والهدف إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإرشادهم إلى الحق حتى يأخذوا به، وينجو من النار، وينجو من غضب الله، وإخراج الكافر من ظلمة الكفر إلى النور والهدى، وإخراج الجاهل من ظلمة الجهل إلى نور العلم، والعاصي من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة، هذا هو المقصود من الدعوة كما قال جل وعلا: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257]، فالرسل بعثوا ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ودعاة الحق كذلك يقومون بالدعوة وينشطون لها، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولإنقاذهم من النار ومن طاعة الشيطان، ولإنقاذهم من طاعة الهوى إلى طاعة الله ورسوله". [6]
ويرصد سماحته واقع الدعوة الراهن ليوضح سهولة تحقيق الهدف فيقول:
"الناس اليوم في أشد الحاجة للدعوة، وعندهم قبول لها؛ بسبب كثرة الدعاة إلى الباطل، وبسبب انهيار المذهب الشيوعي، وبسبب هذه الصحوة العظيمة بين المسلمين، الناس الآن في إقبال على الدخول في الإسلام، والتفقه في الإسلام حسب ما بلغنا في سائر الأقطار.
ونصيحتي للعلماء والقائمين بالدعوة أن ينتهزوا هذه الفرصة، وأن يبذلوا ما في وسعهم في الدعوة إلى الله وتعليم الناس ما خلقوا له من عبادة لله وطاعته مشافهة وكتابة وغير ذلك".[7]
هذه هي نظرته لهدف الداعية من دعوته، وهذا هو المقصد الذي سعى لتحقيقه - رحمه الله - وبذل فيه قدرًا كبيرًا من وقته، كما يتضح أيضًا تفاؤله العظيم بانتشار الإسلام وهداية الناس من نظرته لواقعهم وسبره لأحوالهم. [8]
 
وسائل الدعوة:
يتضح من مقالات سماحته ولقاءاته وفتاويه أنه يرى أن وسائل الدعوة اجتهادية لا توقيفية، وأن على الداعية أن يستغل كل وسيلة مباحة وممكنة لنشر دعوته وتبيينها للناس. 
ويظهر - رحمه الله - وعيه الكامل ودرايته التامة بواقع الدعوة الراهن داخل وخارج العالم الإسلامي وما يواجهها من تحديات، كما كان إدراكه عميقًا بالأساليب التي تتناسب مع هذا الواقع [9] ومن ذلك قوله رحمه الله:
"وفي وقتنا اليوم قد يسر الله أمر الدعوة أكثر، بطرق لم تحصل لمن قبلنا، فأمور الدعوة اليوم متيسرة أكثر، من طرق كثيرة، وإقامة الحجة على الناس اليوم ممكنة بطرق متنوعة: عن طريق الإذاعة، وعن طريق التلفزة، وعن طريق الصحافة، ومن طرق شتى". [10]
ثم يقول في موضع آخر: "أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ومن لهم القدرة الواسعة، فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار، حسب الإمكان بالطرق الممكنة، وباللغات الحية التي ينطق بها الناس، يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية وبغيرها، فإن الأمر الآن ممكن وميسور بالطرق التي تقدم بيانها، طرق الإذاعة والتلفزة والصحافة، وغير ذلك من الطرق التي تيسرت اليوم، ولم تتيسر في السابق، كما أنه يجب على الخطباء في الاحتفالات وفي الجمع وفي غير ذلك أن يبلغوا ما استطاعوا من أمر الله ، وأن ينشروا دين الله حسب طاقتهم، وحسب علمهم". [11]
ثم يقول: "فإن الدعوة إلى الله اليوم أصبحت فرضًا عامًا، وواجبًا على جميع العلماء، وعلى جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام، فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة والخطابة، وبالإذاعة وبكل وسيلة استطاعوا". [12]
ثم يقول في الرد على نشاط أعداء الإسلام: "فوجب على أهل الإسلام أن يقابلوا هذا النشاط الملحد بنشاط إسلامي، وبدعوة إسلامية على شتى المستويات، وبجميع الوسائل وبجميع الطرق الممكنة، وهذا من باب أداء ما أوجب الله على عباده من الدعوة إلى سبيله". [13]
ويقول - رحمه الله - أيضًا مبينًا بعض الطرق والوسائل التي يجب استغلالها في الدعوة إلى الله: "عن طريق الكتاب الإسلامي والمنبر، والمحاضرات، والمخيمات والمعسكرات الإسلامية التي يلتقي المسلمون فيها من عدة أقطار، فيتذكرون علوم دينهم، ومشكلات مجتمعهم، ويتفهمون الواقع من حولهم...". [14]
ومعلوم أن العالم قد خطا خطوات هائلة في التقدم والاختراعات في شتى المجالات، وسماحة الشيخ - رحمه الله - قد عاصر هذه النهضة وعايشها واستغل كثيرًا من وسائلها وأساليبها المباحة في تعليمه للناس، ودعوته إلى الله، ولقد كان موقف الناس من هذه التطورات مختلفًا: فمنهم من أنكر هذه التطورات وعارضها معارضة تامة، ومنهم من انساق ورائها وانبهر بها وانقاد لها واعتبرها فتحًا من الفتوح دون تفريق.
ومنهم - وهم المصيبون - من نظر إلى هذه المحدثات الآلية والتطورات المادية وما يتبعها من الأنظمة والبرامج نظرة شرعية متزنة لم تتخذ أحد الطرفين السابقين مسلكًا لها، وقد كان الشيخ - رحمه الله - عَلَمًا في هذا المسلك، وإمامًا في هذا الجانب.
لم يعرف عنه أنه وقف من هذه التطورات والتقنيات موقفًا سلبيًا، بل كان حسن الظن واسع البال، طيب الفأل، عنده من سعة العقل ما يمكنه من توجيه كل جديد لخدمة الإسلام ونشره والدعوة إليه، والاستفادة منه ما أمكن، ومع هذا فقد كان يحذر من المحدثات المنكرة، ولم تمنعه كثرتها وانتشارها وتنوع أسبابها من الدعوة وهداية الناس، والرفق بهم، والتلطف معهم، والشفقة عليهم، كما لم يخدش هذا شيئًا من فأله الحسن، فضلًا عن أن يصاب بشيء من التردد وعدم الوضوح مما قد يكون حاصلًا لبعض كبار العقلاء من أهل العلم والفضل. [15]
وقد كان الشيخ يفتي عبر كل وسيلة: يفتي كتابةً، ويفتي مشافهةً، ويفتي عبر الصحف والمجلات، وعبر الإذاعة، وكان آخر ما وافق عليه ارتباطه بالناس بواسطة شبكة المعلومات -الإنترنت. [16]
وفي سؤال لمجلة المجتمع عن الإنتاج الإعلامي يقول: يقوم الإنتاج الإعلامي الحالي بتوجيه هذا الجيل كيفما يريد المنتجون فما يقدمه التلفزيون والإذاعة من تمثيليات ومسرحيات وبرامج مختلفة، إنما يعمل على تكريس قيم وأفكار ومبادئ يريدها صانعو هذه المصنفات الفنية، فإن تركنا إنتاج هذه المصنفات لغيرنا أفسدوا أبناءنا وبناتنا، وإن وجهنا أبناءنا وبناتنا لدراسة هذه الفنون من أجل صياغتها صياغة إسلامية خافوا على أنفسهم من الوقوع في الخطأ فبم تنصحون؟
فأجاب رحمه الله: "إن على المسؤولين في الدول الإسلامية أن يتقوا الله في المسلمين، وأن يولوا هذه الأمور لعلماء الخير والهدى والحق، كما أن على علمائنا أن لا يمتنعوا من إيضاح الحقائق بالوسائل الإعلامية، وألا يدعوا هذه الوسائل للجهلة والمتهمين وأهل الإلحاد، بل يتولاها أهل الصلاح والإيمان والبصيرة، وأن يوجهوها على الطريقة الإسلامية؛ حتى لا يكون فيها ما يضر المسلمين شيبًا أو شبانًا، رجالًا أو نساءً، كما وأن على العلماء أن يقدموا للناس إجابات وافية حول ما يبثه التلفاز ريثما يتولاها الصالحون، وإن على الدول الإسلامية أن تولي الصالحين؛ حتى يبثوا الخير، ويزرعوا الفضائل، نسأل الله للجميع التوفيق".
ثم سئل بعدها: هل معنى ذلك أنك تنصح أبناءنا المسلمين بدراسة هذه المجالات حتى يحتلوا الأماكن التي يغزوها هؤلاء المفسدون؟
فأجاب: نعم، ينبغي للعلماء ألا يتركوا هذه الأمور للجهلة، وأن يتولوا بث الخير والفضيلة في كافة المجالات، ولكن هناك مسألة التمثيل، فأنا لا أنصح بممارسة التمثيل، وإنما على العلماء أن يبينوا للناس أحكام الله ورسوله". [17]
ومما سبق يتضح موقفه ورأيه - رحمه الله - في وسائل الدعوة وأنها اجتهادية، كما أن لكل زمان ما يناسبه من وسائل الدعوة، لكن لابد أن تكون منضبطة انضباطًا تامًا بالضوابط الشرعية، بحيث لا تتخذ ولا تسلك في الدعوة وسيلة محرمة، أو فيها شبهة، أو مغايرة لمقصد من مقاصد الشريعة، أو تجعل هذه الوسائل ذريعة لأمور محرمة، فالهدف الدعوة إلى الله لكن لابد من القيام بهذا الواجب بالطرق المشروعة وإن اختلفت الوسائل وتجددت. [18]
  1. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/330).
  2. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/331).
  3. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/332).
  4. انظر: ابن باز الداعية الإنسان، لفهد البكران (ص 41)، منهج الشيخ عبدالعزيز بن باز في الدعوة إلى الله، لسليمان أبا الخيل (ص 146-147).
  5. انظر: الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاء، للشيخ عبدالعزيز بن باز (ص 40-44)، منهج الشيخ عبدالعزيز بن باز في الدعوة إلى الله لسليمان أبا الخيل (ص 148-149)، الإبريزية في التسعين البازية، لحمد الشتوي (ص 157)، وابن باز الداعية الإنسان، لفهد البكران (ص 36-37).
  6. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/344).
  7. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (8/406).
  8. منهج الشيخ عبدالعزيز بن باز في الدعوة إلى الله، لسليمان أبا الخيل (ص 151).
  9. انظر: ابن باز الداعية الإنسان، لفهد البكران (ص 41).
  10. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/331).
  11. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/332).
  12. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/333).
  13. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/333).
  14. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (2/336).
  15. انظر: منهج الشيخ عبدالعزيز بن باز في الدعوة إلى الله، لسليمان أبا الخيل (ص 140).
  16. انظر: إمام العصر، لناصر بن مسفر الزهراني (ص 245).
  17. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/271).
  18. انظر: منهج الشيخ عبدالعزيز بن باز في الدعوة إلى الله، لسليمان أبا الخيل (ص 144).