تنبيهات على ما كتبه الشيخ الصابوني في صفات الله عز وجل

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد اطلعت على المقابلة التي أجرتها مجلة (المجتمع) مع فضيلة الشيخ محمد علي الصابوني ونشرت في العدد رقم 613 وتاريخ 7 / 6 / 1403 هـ وعلى مقالاته الست المنشورة في أعداد المجتمع: رقم 627 وتاريخ 17 / 9 / 1403 هـ، ورقم 628 وتاريخ 24 / 9 / 1403هـ ورقم 629 وتاريخ 9 / 10 / 1403 هـ، ورقم 630 وتاريخ 16 / 10 / 1403هـ ورقم 631 وتاريخ 23 / 10 / 1403هـ، ورقم 646 وتاريخ 17 /2 / 1404هـ وقد اشتملت على أخطاء نبه على بعضها صاحب الفضيلة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان في مقاله المنشور بمجلة الدعوة في عدد 15 رقم 904 وتاريخ 29 / 10 / 1403 هـ، وفي مجلة المجتمع بعددها رقم 646 وتاريخ 17 / 2 / 1404هـ، و650 في 24 / 2 / 1404هـ، وقد أجاد وأفاد وأحسن جزاه الله خيرًا ونصر به الحق، وقد رأيت التنبيه على ما وقع فيها من أخطاء؛ تأكيدًا لما ذكره الدكتور صالح، ومشاركة في الخير ونشر الحق، واستدراكًا لأخطاء لم يتعرض لها فضيلة الدكتور صالح في مقاليه المشار إليهما، والله الموفق. فأقول:
تقليد الأئمة الأربعة:
1- قوله عن تقليد الأئمة الأربعة (إنه من أوجب الواجبات) لا شك أن هذا الإطلاق خطأ، إذ لا يجب تقليد أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم مهما كان علمه؛ لأن الحق في اتباع الكتاب والسنة لا في تقليد أحد من الناس، وإنما قصارى الأمر أن يكون التقليد سائغًا عند الضرورة لمن عرف بالعلم والفضل واستقامة العقيدة، كما فصل ذلك العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتابه (إعلام الموقعين) ولذلك كان الأئمة رحمهم الله لا يرضون أن يؤخذ من كلامهم إلا ما كان موافقًا للكتاب والسنة، قال الإمام مالك رحمه الله: (كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر) يشير إلى قبر رسول اللهﷺ، وهكذا قال إخوانه من الأئمة في هذا المعنى، فالذي يتمكن من الأخذ بالكتاب والسنة يتعين عليه ألا يقلد أحدًا من الناس، ويأخذ عند الخلاف بما هو أقرب الأقوال لإصابة الحق، والذي لا يستطيع ذلك فالمشروع له أن يسأل أهل العلم، كما قال الله فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
2- قال: (إذا كان ابن تيمية رحمه الله مع درجة علمه لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد، وإنما مذهبه حنبلي يتقيد به في كثير من الأحيان).
الجواب: هذا القول فيه نظر بل هو خطأ ظاهر فإن شيخ الإسلام رحمه الله من أعلم المجتهدين وقد توافرت فيه شروطط الاجتهاد، وانتسابه إلى المذهب الحنبلي لا يخرجه عن ذلك؛ لأن المقصود من ذلك موافقته لأحمد في أصول مذهبهه وقواعده، وليس المقصود من ذلك أنه يقلده فيما قاله بغير حجة، وإنما كان يختار من الأقوال أقربها إلى الدليل حسبما يظهر له-رحمه الله.
مذهب الأشاعرة هل هو حق أم ضلال؟
3- ذكر أن الخلافات في العقيدة ضيقة وقال: (الذين يقولون بضلال مذهب الأشاعرة نقول لهم: ارجعوا إلى فتاوى ابن تيمية، واقرءوا ماذا كتب ابن تيمية عن أبي الحسن الأشعري؟ حتى نفهم أن هؤلاء جهلة) اهـ.
والجواب أن يقال: لا شك أنه ضل بسبب الخلاف في العقيدة فرق كثيرة، كالمعتزلة والجهمية والرافضة والقدرية وغيرهم، وأيضًا الأشاعرة ضلوا فيما خالفوا فيه الكتاب والسنة، وما عليه خيار هذه الأمة من أئمة الهدى من الصحابة والتابعين لهم بإحسان والأئمة المهتدين فيما تأولوه من أسماء الله وصفاته على غير تأويله، وأبو الحسن الأشعري رحمه الله ليس من الأشاعرة، وإن انتسبوا إليه؛ لكونه رجع عن مذهبهم واعتنق مذهب أهل السنة، فمدح الأئمة له ليس مدحًا لمذهب الأشاعرة.
ولا يصح أن يرمى من اعترض على الأشاعرة فيما خالفوا فيه عقيدة أهل السنة بالجهل؛ لأن حقيقة الجهل هو القول على الله بغير علم، أما من أخذ بالكتاب والسنة، وقواعد الشرع المعتبرة، وسار على طريق سلف الأمة، وأنكر على من تأول أسماء الله وصفاته أو شيئًا منها على غير تأويلها فإنه لا يرمى بالجهل.
قوامة الرجال:
4- قال: (إنما القوامة للرجل قوامة تكليف وليست قوامة تشريف).
والجواب أن يقال: هذا خطأ، والصواب أن يقال: (إن قوامة الرجال على النساء قوامة تكليف وتشريف)؛ لقول الله جل وعلا: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا [النساء:34].
فأوضح سبحانه أنه جعل الرجال قوامين على النساء لأمرين:
أحدهما: فضل جنس الرجال على جنس النساء، والأمر الثاني: قيام الرجال بالإنفاق على النساء بما يدفعونه من المهور وغيرها من النفقات.
التفويض الصحيح للكيفية لا للمعاني:
5- قال في مقاله الأول بعد المقدمة ما نصه: (ولا يجوز أن تجعلهم -يعني بذلك الأشاعرة والماتريدية- في صف الروافض والمعتزلة والخوارج الذين انحرفوا عن أهل السنة والجماعة، غاية ما في الأمر أن نقول: إنهم مخطئون في التأويل، ذلك لأن الأسلم أن نفوض الأمر في موضوع الصفات إلى علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية) اهـ.
والجواب أن يقال: الفرق المخالفة لأهل السنة متفاوتون في أخطائهم، فليس الأشاعرة في خطئهم كالخوارج والمعتزلة والجهمية بلا شك، ولكن ذلك لا يمنع من بيان خطأ الأشاعرة فيما أخطئوا فيه ومخالفتهم لأهل السنة في ذلك، كما نبين خطأ غيرهم لإظهار الحق وبيان بطلان ما يخالفه تبليغًا عن الله سبحانه وعن رسولهﷺ، وحذرًا من الوعيد المذكور في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ ۝ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159، 160].

ثم يقال: ليس الأسلم تفويض الأمر في الصفات إلى علام الغيوب؛ لأنه سبحانه بينها لعباده وأوضحها في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين ﷺ ولم يبين كيفيتها، فالواجب تفويض علم الكيفية لا علم المعاني، وليس التفويض مذهب السلف، بل هو مذهب مبتدع مخالف لما عليه السلف الصالح.
وقد أنكر الإمام أحمد -رحمه الله- وغيره من أئمة السلف على أهل التفويض وبدعوهم؛ لأن مقتضى مذهبهم أن الله سبحانه خاطب عباده بما لا يفهمون معناه ولا يعقلون مراده منه، والله يتقدس عن ذلك، وأهل السنة والجماعة يعرفون مراده سبحانه بكلامه، ويصفونه بمقتضى أسمائه وصفاته، وينزهونه عن كل ما لا يليق به ، وقد علموا من كلامه سبحانه ومن كلام رسوله ﷺ أنه سبحانه موصوف بالكمال المطلق في جميع ما أخبر به عن نفسه أو أخبر به عنه رسولهﷺ، وسأذكر بعض النقول المهمة عن السلف الصالح في هذا الباب ليتضح للقارئ صحة ما ذكرنا:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في رسالة (الفتوى الحموية) ما نصه[1]: (روى أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا -والتابعون متوافرون- نقول إن الله - تعالى ذكره - فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من الصفات. فقد حكى الأوزاعي وهو أحد الأئمة الأربعة: عصر تابعي التابعين- الذين هم: مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق- حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش وبصفاته السمعية. وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المُنْكِر لكون الله فوق عرشه والنافي لصفاته؛ ليعرف الناس أن مذهب السلف كان يخالف هذا.
وروى أبو بكر الخلال في كتاب (السنة) عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: (أمِرُّوها كما جاءت).
وروى أيضًا عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات فقالوا: (أمِرُّوها كما جاءت). وفي رواية: قالوا: (أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف). وقولهم : (أمروها كما جاءت) رد على المعطلة، وقولهم: (بلا كيف) رد على الممثلة.
والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين ومن طبقتهم: حماد بن زيد، وحماد بن سلمة وأمثالهما.
وروى أبو القاسم الأزجي بإسناده عن مطرِّف بن عبدالله قال: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: قال عمر بن عبدالعزيز: سن رسول الله ﷺ وولاة الأمر بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد من خلق الله تغييرها ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا.
وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة قال: سئل ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ المبين وعلينا التصديق. وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبي عبدالرحمن من غير وجه.
ومنها ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني وأبو بكر البيهقي عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبدالله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء[2] ثم قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعًا، فأمر به أن يخرج).
فقول ربيعة ومالك: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب). موافق لقول الباقين: (أمروها كما جاءت بلا كيف)، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول) ولما قالوا: (أمروها كما جاءت بلا كيف) فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلومًا بل يكون مجهولًا بمنزلة حروف المعجم، وأيضًا فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات. وأيضًا فإن من ينفي الصفات الخبرية أو الصفات مطلقًا لا يحتاج إلى أن يقول: (بلا كيف) فمن قال: إن الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا بلا كيف.
وأيضًا فقولهم: (أمروها كما جاءت) يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه فإنها جاءت ألفاظ دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ: (بلا كيف) إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول). انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
6-نقل في المقال المذكور عن الشيخ حسن البنا رحمه الله ما نصه: (نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).
والجواب أن يقال: نعم يجب أن نتعاون فيما اتفقنا عليه من نصر الحق والدعوة إليه والتحذير مما نهى الله عنه ورسوله، أما عذر بعضنا لبعض فيما اختلفنا فيه فليس على إطلاقه، بل هو محل تفصيل، فما كان من مسائل الاجتهاد التي يخفى دليلهاا فالواجب عدم الإنكار فيها من بعضنا على بعض، أما ما خالف النص من الكتاب والسنة فالواجب الإنكار على من خالف النص بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن عملا بقوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] وقوله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71].
وقوله : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وقول النبيﷺ: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وقولهﷺ: من دل على خير فله مثل أجر فاعله أخرجهما مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في هذا كثيرة.
الفُرْقة مذمومة والحكم عند التنازع للكتاب والسنة:
7-ثم نعى الكاتب الشيخ محمد علي الصابوني في مقاله الثاني على المسلمين تفرقهم إلى سلفي وأشعري وصوفي وماتريدي.. إلخ.
 ولا شك أن هذا التفرق يؤلم كل مسلم ويجب على المسلمين أن يجتمعوا على الحق ويتعاونوا على البر والتقوى، ولكن الله سبحانه قدر ذلك على الأمة لحكم عظيمة وغايات محمودة يحمد عليها سبحانه ولا يعلم تفاصيلها سواه، ومن ذلك التمييز بين أوليائه وأعدائه، والتمييز بين المجتهدين في طلب الحق والمعرضين عنه المتبعين لأهوائهم، إلى حكم أخرى، وفي ذلك تصديق لنبيهﷺ، ودليل على أنه رسول الله حقًا لكونه ﷺ قد أخبر عن هذا التفرق قبل وقوعه، فوقع كما أخبر حيث قالﷺ: ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: هي الجماعة وفي رواية أخرى قال: ما أنا عليه وأصحابي وهذا يوجب على المسلمين أن يجتمعوا على الحق وأن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول؛ لقول الله : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59] وقوله سبحانه: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10] وهاتان الآيتان الكريمتان تدلان على أن الواجب على المسلمين رد ما تنازعوا فيه في العقيدة وغيرها إلى الله سبحانه وإلى رسولهﷺ، وبذلك يتضح الحق لهم وتجتمع كلمتهم عليه ويتحد صفهم ضد أعدائهم، أما بقاء كل طائفة على ما لديها من باطل وعدم التسليم للطائفة الأخرى فيما هي عليه من الحق، فهذا هو المحذور والمنهي عنه، وهو سبب تسليط الأعداء على المسلمين، واللوم كل اللوم على من تمسك بالباطل وأبى أن ينصاع إلى الحق، أما من تمسك بالحق ودعا إليه وأوضح بطلان ما خالفه فهذا لا لوم عليه، بل هو مشكور وله أجران، أجر اجتهاده، وأجر إصابته للحق.
حقيقة مذهب أهل السنة:
8- ذكر الصابوني في مقاله الثاني أن أهل السنة اشتهروا بمذهبين اثنين أحدهما: مذهب السلف، والآخر: مذهب الخلف.. إلخ.
والجواب أن يقال: هذا غلط بين لم يسبقه إليه أحد فيما أعلم، فإن مذهب أهل السنة واحد فقط، وهو ما درج عليه أصحاب رسول الله ﷺ وأتباعهم بإحسان، وهو إثبات أسماء الله وصفاته وإمرارها كما جاءت، والإيمان بأنها حق، وأن الله سبحانه موصوف بها على الوجه الذي يليق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا تأويل لها عن ظاهرها ولا تفويض؛ بل يؤمنون بأن معانيها معلومة، وأنها حق لائقة بالله ، لا يشابه خلقه في شيء منها، ومذهب الخلف بخلاف ذلك كما يعلم ذلك من قرأ كلام هؤلاء وكلام هؤلاء.
ثم ذكر أن أهل السنة يفوضون علم معاني الصفات إلى الله، وكرر ذلك في غير موضع، وقد أخطأ في ذلك ونسب إليهم ما هم براء منه، كما تقدم بيان ذلك فيما نقلناه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن جَمْعٍ من أهل السنة-رحمة الله عليهم، وإنما يفوض أهل السنة إلى الله سبحانه علم الكيفية لا علم المعاني كما سبق إيضاح ذلك.
أهل السنة لا ينفون عن الله إلا ما نفاه عن نفسه:
9- ثم ذكر الصابوني-هداه الله-تنزيه الله سبحانه عن الجسم والحدقة والصماخ واللسان والحنجرة، وهذا ليس بمذهب أهل السنة بل هو من أقوال أهل الكلام المذموم وتكلفهم، فإن أهل السنة لا ينفون عن الله إلا ما نفاه عن نفسه، أو نفاه رسولهﷺ، ولا يثبتون له إلا ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسولهﷺ، ولم يرد في النصوص نفي هذه الأمور ولا إثباتها، فالواجب الكف عنها وعدم التعرض لها، لا بنفي ولا إثبات، ويغني عن ذلك قول أهل السنة في إثبات صفات الله وأسمائه أنه لا يشابه فيها خلقه، وأنه سبحانه لا ند له ولا كفو له.
قال الإمام أحمد-رحمه الله: (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ لا يتجاوز القرآن والحديث) وهذا هو معنى كلام غيره من أئمة السنة، وأما ما وقع في كلام البيهقي -رحمه الله- في كتابه (الاعتقاد) من هذه الأمور، فهو مما دخل عليه من كلام المتكلمين وتكلفهم، فراج عليه واعتقد صحته، والحق أنه من كلام أهل البدع لا من كلام أهل السنة.
أهل السنة يثبتون لله ما أثبته لنفسه دون أن يشبهوه بخلقه:
10- ثم قال الصابوني في مقاله الثاني ما نصه: (أما ما يتخيله بعض الجهلة من أدعياء العلم اليوم الذين يصورون الله بصورة غريبة عجيبة، ويجعلون الله تعالى كأنه جسم مركب من أعضاء وحواس، له وجه ويدان وعينان وله ساق وأصابع، وهو يمشي وينزل ويهرول، ويقولون في تقرير هذه الصفات أن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير، وينزل كما ينزل أحدنا على الدرج - يريد بزعمه أن يقرر مذهب السلف الصالح للتلاميذ، ويثبت لهم حقيقة معنى الاستواء والنزول وأنه جلوس حس لا كما يتأوله المؤولون-فهذا والعياذ بالله عين الضلالة؛ لأنه شبه وجسم وهو كمن فر من حفرة صغيرة ليقع في هوة عميقة يتحطم فيها ويهوي فيها إلى مكان سحيق) اهـ.
وأقول: أن الأخ الصابوني -هداه الله- قد جمع في هذا الكلام حقا وباطلا يعلمه كل صاحب سنة، وإليك أيها القارئ المؤمن التفصيل في ذلك:
أما الوجه واليدان والعينان والساق والأصابع فقد ثبتت في النصوص من الكتاب والسنة الصحيحة، وقال بها أهل السنة والجماعة وأثبتوها لله سبحانه على الوجه اللائق به سبحانه، وهكذا النزول والهرولة جاءت بها الأحاديث الصحيحة ونطق بها الرسول ﷺ وأثبتها لربه على الوجه اللائق به سبحانه من غير مشابهة لخلقه، ولا يعلم كيفية هذه الصفات إلا هو سبحانه. فإنكار الصابوني هذه الصفات إنكار على النبيﷺ، بل إنكار على الله ؛ لأنه سبحانه ذكر بعضها في كتابه العزيز وأوحى البعض الآخر لنبيهﷺ، فإنه ﷺ لا ينطق عن الهوى، وإنما يخبر عن الله سبحانه بما أوحى إليه، فالصابوني-هداه الله-تارة يقول إنه يلتزم بمذهب أهل السنة، وتارة ينتقضه ويخالفه، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله لنا وله الهداية والرجوع إلى الحق.
 وأما قوله: (ويقولون في تقرير هذه الصفات إن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير وينزل كما ينزل أحدنا على الدرج... إلخ).
فهذا القول أهل السنة براء منه، بل هو من كلام المشبهة الذين كفرهم السلف الصالح وأنكروا مقالتهم لكونها مصادمة لقول الله : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وما جاء في معناها من الآيات، فلا يجوز لأحد أن يخلط بين كلام أهل الحق من أهل السنة وكلام أهل الباطل من المشبهة وغيرهم، ولا يميز بينهما، بل الواجب التفصيل والتمييز.
الأشعري والماتوريدي ليس أول من رد شبهات أهل الزيغ:
11- ثم زعم الصابوني في مقاله الثالث أن أول من كتب في أصول الدين ورد شبهات أهل الزيغ والضلال أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتوريدي، وهذا جزم غير صحيح، فقد سبقهما في ذلك: الإمام أبو حنيفة رحمه الله، والإمام عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة الماجشون، والإمام مالك رحمه الله، والإمام أحمد بن حنبل، والإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة، والإمام عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على المريسي، والإمام عبدالعزيز الكناني صاحب الحيدة وغيرهم ممن لا يحصى.
مذهب أهل السنة واحد وهو أسلم وأعلم وأحكم:
12- ثم كرر الصابوني-هداه الله-في مقاله الثالث قوله: (إن السلف لهم مذهبان: مذهب أهل التفويض، ومذهب أهل التأويل) إلى آخر ما قال... إلى أن قال: (إن بعضهم يفضل مذهب السلف ويقول إنه أسلم، والبعض الآخر يفضل مذهب الخلف ويقول هو أحكم) اهـ.
والجواب: أن هذا التقسيم باطل كما تقدم، وليس للسلف إلا مذهب واحد، هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهم الصحابة  وأتباعهم بإحسان، وهو الأسلم والأعلم والأحكم، أما المذهب الثاني: فهو مذهب الخلف المذموم، وهو مذهب أهل التأويل والتحريف والتكلف.
 ولا يلزم من ذم مذهب الخلف والتحذير منه القول بتكفيرهم، فإن التكفير له حكم آخر يبنى على معرفة قول الشخص وما لديه من الباطل ومدى مخالفته للحق، فلا يجوز أن يقال أنه يلزم من ذم مذهب الخلف أو الإنكار على الأشاعرة ما وقعوا فيه من تأويل الصفات وتحريفها إلا صفات قليلة استثنوها القول بتكفيرهم، وإنما المقصود بيان مخالفتهم لأهل السنة في ذلك، وبطلان ما ذهب إليه الخلف من التأويل، وبيان أن الصواب هو مذهب السلف الصالح، وهم أهل السنة والجماعة في إمرار آيات الصفات وأحاديثها، وإثبات ما دلت عليه من الأسماء والصفات على الوجه اللائق بالله سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تأويل ولا تكييف ولا تمثيل كما سبق ذكر ذلك غير مرة والله المستعان.
ثم ذكر كلام البيهقي هنا، وقد تقدم ما فيه وأنه رحمه الله دخلت عليه ألفاظ من ألفاظ أهل البدع، فراجت عليه وظنها صوابا فأدخلها في كتابه، وهو من جملة الذين خاضوا في الكلام وعَلِقَ باعتقاده بعض ما فيه من الشرسامحه الله وعفا عنه. كما نبه على ما يدل على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى جـ 6 ص 53.
أهل السنة لا يؤولون الصفات ولكن يجمعون بين النصوص ويفسرون بعضها ببعض:
13- ثم قال الصابوني في مقاله الثالث ما نصه: (ولا يظن أحد أننا نفضل مذهب الخلف على مذهب السلف، ولسنا على الرأي الذي يقوله علماء الكلام: مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أحكم، بل نقول عن إيمان ويقين أن مذهب السلف هو الأسلم وهو الأحكم، فلا نحاول أن نؤول صفات الخالق جل وعلا، بل نؤمن بها كما جاءت، ونقر بها كما وردت مع نفي التشبيه والتجسيم). ثم استشهد بقول بعض الشعراء:
إن المـفوض سـالم مما تكلـفه المؤول
إلى أن قال: (وإذا كان من أول الصفات ضال؛ فسنضلل السلف الصالح جميعًا لأنهم أولوا قوله تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ [المجادلة:7] قالوا: معهم بعلمه لا بذاته وأولوا قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] قالوا: معية علم لئلا تتعدد الذات، وسنحكم بضلال الحافظ ابن كثير؛ لأنه قال في قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85] ملائكتنا أقرب إليه منكم ولكن لا ترونهم، كما أول قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] قال: المراد ملائكتنا أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه، والحلول والاتحاد منفي بالإجماع تعالى الله وتقدس). وقال: (بل نقول: إنه يتعين التأويل أحيانا كما في الحديث الصحيح: الحجر الأسود يمين الله في أرضه وكما قال عن سفينة نوح : وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ۝ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ [القمر:13، 14] اهـ.
والجواب أن يقال: قد أحسنت في اختيار مذهب السلف الصالح واعتقاد أنه الأسلم والأحكم والأعلم، ولكنك لم تثبت عليه بل تارة تختار مذهب التأويل وتارة تختار مذهب التفويض، والواجب على المؤمن الثبات على الحق وعدم التحول عنه، وما ذكرته عن السلف من تفسير قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ [الحديد:4] بالعلم ليس بتأويل ولكنه هو معنى آيات المعية عند أهل السنة والجماعة، كما حكى الإمام أبو عمر بن عبدالبر وأبو عمر الطلمنكي إجماع أهل السنة على ذلك؛ وذلك لأن النصوص من الكتاب والسنة الدالة على علوه وفوقيته وتنزيهه سبحانه عن الحلول والاتحاد تقتضي ذلك، ومن تأمل الآيات الواردة في ذلك علم أنها تدل على أن المراد بالمعية العلم بأحوال عباده واطلاعه على شؤونهم مع دلالة المعية الخاصة على كلاءته ورعايته وحفظه ونصره لأنبيائه وأوليائه، مع علمه واطلاعه على أحوالهم.
 والعرب الذين نزل عليهم الكتاب وجاءت السنة بلغتهم يعلمون ذلك ولا يشتبه عليهم، ولهذا لم يسألوا النبي ﷺ عن معاني هذه الآيات لظهورها لهم، أما النصوص الأخرى فلا تحتاج إلى تأويل؛ لأن المعنى فيها ظاهر مثل قوله سبحانه: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] و وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] و وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48] فلا يدور بخلد أحد أن السفينة تجري بعين الله، ولا أن محمدًا عليه الصلاة والسلام في عين الله، وإنما المراد بذلك أن السفينة تجري برعاية الله وعنايته وتسخيره لها وحفظه لها، وأن محمدًا ﷺ تحت رعاية مولاه وعنايته وحفظه وكلاءته.
وهكذا قوله في حق موسى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] أي تحت رعايتي وحفظي، وهكذا حديث: كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به يفسره قوله في الرواية الأخرى: فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي[3] ولا يظن من له أدنى بصيرة ممن يعرف اللغة العربية أن المراد بذلك أن الله سبحانه هو سمع الإنسان وبصره وهو يده ورجله - تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا - وإنما أراد من ذلك سبحانه بيان توفيقه لأوليائه وتسديده لهم في حواسهم وحركاتهم بسبب طاعتهم له وقيامهم بحقه وهكذا الأحاديث الأخرى.
 وأما حديث: الحجر يمين الله فهو حديث ضعيف، والصواب وقفه على ابن عباس، ومعناه ظاهر سواء كان مرفوعًا أو موقوفًا، وقد قال في نفس الحديث فكأنما صافح الله وقبّل يمينه فدل على أن الحجر ليس هو يمين الله، وإنما شبه مستلمه ومقبّله بمن صافح الله وقبل يمينه ترغيبًا في استلامه وتقبيله.
 وهكذا قول الله سبحانه في الحديث الصحيح لعبده: مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني قد بين في الحديث ما يدل على معناه حيث قال سبحانه: أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده، ولو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ فعُلِم بذلك أن الله سبحانه لم يمرض ولم يجع، وإنما أراد سبحانه من ذلك حث العباد على عيادة المريض وإطعام الجائع.
 وأما قوله سبحانه وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] وقوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الواقعة:85] فقد فسره جماعة بقرب الملائكة؛ لأن قربهم من العبد حين يتلقى المتلقيان وحين الموت كان بأمره سبحانه وتقديره ورعايته لعباده، وفسره آخرون بأنه: قربه سبحانه بعلمه وقدرته وإحاطته بعباده كالمعية، وكقربه من عابديه وسائليه مع علوه وفوقيته سبحانه، وليس المراد الحلول ولا الاتحاد-تعالى الله عن ذلك وتقدس؛ لأن الأدلة القطعية من الكتاب والسنة تدل على أنه سبحانه فوق العرش بائن من خلقه عال عليهم وعلمه في كل مكان، فمن تدبر النصوص من الكتاب والسنة وفسر بعضها ببعض اتضح له المعنى ولم يحتج إلى التأويل، وقد اختار أبو جعفر بن جرير رحمه الله في تفسيره: القول الثاني في سورة (ق) والقول الأول في سورة (الواقعة) وقد أنكر أهل السنة على من تأول نصوص الصفات وبدّعوه لما يترتب على تأويلها من أنواع الباطل، وتحريف الكلم عن مواضعه، وتجريد الرب سبحانه من صفات الكمال، وسوء الظن به، وأنه خاطب عباده بما ظاهره تشبيه وتمثيل وأن المراد غيره، وهذا هو التأويل المذموم، وهذا هو الذي سلكه أهل الكلام وأنكره عليهم أهل السنة وضللوهم في ذلك؛ لكونهم أولوا النصوص عن ظاهرها وصرفوها عن الحق الذي دلت عليه بلا حجة ولا برهان من كتاب ولا سنة، بل بمقتضى عقولهم وآرائهم التي لم ينزل الله بها من حجة ولا قام عليها برهان، وقد ألزموهم فيما أثبتوا نظير ما فروا منه فيما تأولوه وهو لازم لهم بلا شك، ولا يسلم من التناقض واللوازم الباطلة إلا من أثبت ما أثبته الله ورسوله ونفى ما نفاه الله ورسوله، وهم أهل السنة والجماعة، والله المستعان.
الوحدة والاعتصام ومقتضياتهما:
14-ثم دعا في مقاله الرابع إلى جمع الكلمة بين الفئات الإسلامية، وتضافر الجهود ضد أعداء الإسلام، وذكر أن الوقت ليس وقت مهاجمة لأتباع المذاهب، ولا للأشاعرة، ولا للإخوان، حتى ولا للصوفيين.
والجواب أن يقال:
لا ريب أنه يجب على المسلمين توحيد صفوفهم وجمع كلمتهم على الحق وتعاونهم على البر والتقوى ضد أعداء الإسلام، كما أمرهم الله سبحانه بذلك بقوله : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] وحذرهم من التفرق بقوله سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ الآية [آل عمران:105]، ولكن لا يلزم من وجوب اتحاد المسلمين وجمع كلمتهم على الحق واعتصامهم بحبل الله ألا ينكروا المنكر على من فعله أو اعتقده من الصوفية أو غيرهم، بل مقتضى الأمر بالاعتصام بحبل الله أن يأتمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر، ويبينوا الحق لمن ضل عنه أو ظن ضده صوابًا بالأدلة الشرعية حتى يجتمعوا على الحق وينبذوا ما خالفه، وهذا هو مقتضى قوله سبحانه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] وقوله سبحانه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] ومتى سكت أهل الحق عن بيان أخطاء المخطئين وأغلاط الغالطين لم يحصل منهم ما أمرهم الله به من الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعلوم ما يترتب على ذلك من إثم الساكت عن إنكار المنكر وبقاء الغالط على غلطه والمخالف للحق على خطئه، وذلك خلاف ما شرعه الله سبحانه من النصيحة والتعاون على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والله ولي التوفيق.
السلف لا يؤولون الصفات ولا يخوضون بالتجسيم لا نفيًا ولا إثباتًا لأن ذلك بدعة لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة.
15- ذكر الصابوني في مقاله الخامس ما نصه: (ليس مذهب السلف الصالح -الذي أسلفنا الحديث عنه في مقالاتنا السابقة في موضوع صفات الباري جل وعلا هو (التفويض المطلق) كما قد يتوهم البعض من الناس، بل هو مسلك آخر يدل على نظر ثاقب وفهم سليم مستقيم لنصوص الكتاب والسنة، ويتلخص هذا المسلك والمنهج في الآتي:
أولًا: تأويل ما لا بد من تأويله من آيات الصفات وأحاديث الصفات مما لا مندوحة عن تأويله لأسباب لغوية أو شرعية أو اعتقادية.
ثانيا: إثبات ما أثبته القرآن الكريم أو السنة المطهرة من صفات الله جل وعلا من السمع والبصر والكلام والمحبة والرضى والاستواء والنزول والإتيان والمجيء وغيرها من الصفات، والإيمان بها على مراد الله بطريق التسليم والتفويض دون تشبيه أو تعطيل أو تجسيم أو تمثيل) اهـ.
والجواب أن يقال:
إن هذه الدعوى على مذهب السلف دعوى لا أساس لها من الصحة، فإن السلف الصالح ليس مذهبهم التفويض لأسماء الله وصفاته، لا تفويضا عاما ولا خاصا، وإنما يفوضون علم الكيفية كما تقدم بيان ذلك، وكما نص على ذلك مالك وأحمد وغيرهما، وقبلهما أم سلمة -رضي الله عنها- وربيعة بن أبي عبدالرحمن شيخ مالك رضي الله عن الجميع، وليس من مذهب السلف أيضًا تأويل الصفات بل يمرونها كما جاءت، ويؤمنون بمعانيها على الوجه اللائق بالله سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل كما سلف ذكر ذلك غير مرة.
وليس من مذهب السلف أيضا نفي التجسيم ولا إثباته؛ لأن ذلك لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام سلف الأمة كما نص على ذلك غير واحد من أئمة السنة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد نص على ذلك في كتابه (التدمرية) حيث قال في القاعدة السادسة: (ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذا الطريق طريقا فاسدا لم يسلكه أحد من السلف أو الأئمة، فلم ينطق أحد منهم في حق الله بالجسم لا نفيا ولا إثباتا ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك؛ لأنها عبارات مجملة لا تحق حقا ولا تبطل باطلا، ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار ما هو من هذا النوع، بل هذا هو من الكلام المبتدع الذي أنكره السلف والأئمة) اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه (فضل علم السلف على علم الخلف) بعد كلام سبق: (والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل، ولا يصح عن أحد منهم خلاف ذلك البتة، خصوصا الإمام أحمد، ولا خوض في معانيها ولا ضرب مثل من الأمثال لها، وإن كان بعض من كان قريبا من زمن الإمام أحمد فيهم من فعل شيئا من ذلك اتباعا لطريقة مقاتل، فلا يقتدى به في ذلك، إنما الاقتداء بأئمة الإسلام كابن المبارك ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم، وكل هؤلاء لا يوجد في كلامهم شيء من جنس كلام المتكلمين فضلا عن كلام الفلاسفة ولم يدخل ذلك في كلام من سَلِم من قدح وجرح. وقد قال أبو زرعة الرازي: كل من كان عنده علم فلم يصن علمه احتاج في نشره إلى شيء من الكلام فلستم منه) اهـ.
وليس فيما ثبت في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته ما يجب تأويله، بل لا بد أن يوجد في النصوص ما يدل على المعنى المراد الذي يجب إثباته لله على الوجه اللائق به من غير حاجة إلى تأويل يخالف الظاهر من كلام الله ومن كلام رسولهﷺ، مع تفويض علم الكيفية إلى الرب كما سبق بيان ذلك في كلام أئمة السنة.
ليس من أهل العلم من يكفر ابن حجر وغيره ممن وقعوا في التأويل ومذهب العالم هو آخر ما مات عليه.
16- ثم قال الصابوني في مقاله الخامس هداه الله وألهمه التوفيق ما نصه: (ولكني أربأ بإخواني السلفيين أن يتحملوا في أعناقهم وزر تضليل الأمة وتكفير أئمة المسلمين من أهل الفقه والحديث والتفسير الذين هم على مذهب الأشاعرة، فماذا سنجني إن فرقنا صف المسلمين ونسبنا إلى الضلال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني شارح البخاري؟... وذكر جماعة آخرين، ثم قال: (وكل هؤلاء الأئمة الأجلاء وغيرهم على مذهب الإمام الأشعري... إلخ) اهـ.
والجواب أن يقال: ليس من أهل العلم السلفيين من يكفر هؤلاء الذين ذكرتهم، وإنما يوضحون أخطاءهم في تأويل الكثير من الصفات، ويوضحون أن ذلك خلاف مذهب سلف الأمة، وليس ذلك تكفيرًا لهم ولا تمزيقا لشمل الأمة ولا تفريقا لصفهم، وإنما في ذلك النصح لله ولعباده، وبيان الحق والرد على من خالفه بالأدلة النقلية والعقلية، والقيام بما أوجب الله سبحانه على العلماء من بيان الحق وعدم كتمانه والقيام بالدعوة إلى الله والإرشاد إلى سبيله، ولو سكت أهل الحق عن بيانه لاستمر المخطئون على أخطائهم وقلدهم غيرهم في ذلك، وباء الساكتون بإثم الكتمان الذي توعدهم الله عليه في قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ ۝ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159، 160] وقد أخذ الله على علماء أهل الكتاب الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وذمهم على نبذه وراء ظهورهم وحذرنا من اتباعهم، فإذا سكت أهل السنة عن بيان أخطاء من خالف الكتاب والسنة شابهوا بذلك أهل الكتاب المغضوب عليهم والضالين.
ثم يقال للأخ الصابوني: ليس علماء الأشاعرة من أتباع أبي الحسن الأشعري؛ لأنه رجع عن تأويل الصفات وقال بمذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الأسماء والصفات وإمرارها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، كما أوضح ذلك في كتابيه: (الإبانة) و (المقالات) فعلم مما ذكرنا أن من أوَّل الصفات من المنتسبين للأشعري فليس على مذهبه الجديد، بل هو على مذهبه القديم. ومعلوم أن مذهب العالم هو ما مات عليه معتقدا له، لا ما قاله سابقا ثم رجع عنه، فيجب التنبه لذلك والحذر مما يلبس الأمور ويضعها في غير موضعها. والله المستعان.
 الأشاعرة لا يعدون من أهل السنة؛ لأنهم لم يثبوا الصفات:
17-ذكر الصابوني في مقاله السادس الذي بدأه بقوله: (هذا بيان للناس. إن التأويل لبعض آيات وأحاديث الصفات لا يخرج المسلم عن جماعة أهل السنة، فمنه ما هو خطأ ومنه ما هو صواب، وهناك آيات صريحة في التأويل أولها الصحابة والتابعون وعلماء السلف وما يتجرأ أحد أن ينسبهم إلى الضلال أو يخرجهم عن أهل السنة والجماعة، ثم ضرب لذلك أمثلة منها قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67] ومنها ما ذكره سبحانه من استهزائه بالمستهزئين وسخريته من الساخرين بالمؤمنين ومكره بالماكرين، وكذلك أيضًا الحديث الصحيح عن قول الله : مرضت فلم تعدني، وجعت فلم تطعمني إلى أن قال.. إذن ليس الأمر كما يظن البعض أن مذهب السلف ليس فيه تأويل مطلقا، بل مذهب السلف هو تأويل ما لا بد من تأويله) اهـ.
والجواب أن يقال: هذا الكلام فيه تفصيل، وفيه حق وباطل، فقوله: (إن التأويل لبعض الصفات لا يخرج المسلم عن جماعة أهل السنة) صحيح في الجملة؛ فالمتأول لبعض الصفات كالأشاعرة لا يخرج بذلك عن جماعة المسلمين ولا عن جماعة أهل السنة في غير الصفات، ولكنه لا يدخل في جماعة أهل السنة عند ذكر إثباتهم للصفات وإنكارهم للتأويل، فالأشاعرة وأشباههم لا يدخلون في أهل السنة في إثبات الصفات لكونهم قد خالفوهم في ذلك وسلكوا غير منهجهم، وذلك يقتضي الإنكار عليهم وبيان خطئهم في التأويل، وأن ذلك خلاف منهج أهل السنة والجماعة كما تقدم بيانه في أول هذه التنبيهات، كما أنه لا مانع أن يقال إن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة في باب الأسماء والصفات، وإن كانوا منهم في الأبواب الأخرى؛ حتى يعلم الناظر في مذهبهم أنهم قد أخطئوا في تأويل بعض الصفات وخالفوا أصحاب النبي ﷺ وأتباعهم بإحسان في هذه المسألة؛ تحقيقا للحق وإنكارا للباطل وإنزالا لكل من أهل السنة والأشاعرة في منزلته التي هو عليها.
لا يجوز نسبة تأويل الصفات إلى السلف بحال من الأحوال.
ولا يجوز أن ينسب التأويل إلى أهل السنة مطلقا بل هو خلاف مذهبهم، وإنما ينسب التأويل إلى الأشاعرة وسائر أهل البدع الذين تأولوا النصوص على غير تأويلها.
أما الأمثلة التي مثل بها الأخ الصابوني للتأويل عند أهل السنة، فلا حجة له فيها، وليس كلامهم فيها من باب التأويل، بل هو من باب إيضاح المعنى وإزالة اللبس عن بعض الناس في معناها، وهاك الجواب عنها: أما قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوية:67] فليس المراد بالنسيان فيها النسيان في قوله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64] وفي قوله تعالى: فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] بل ذلك له معنى والنسيان المثبت له معنى آخر، فالنسيان المثبت في قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ هو تركه إياهم في ضلالهم، وإعراضه عنهم سبحانه لتركهم أوامره وإعراضهم عن دينه لنفاقهم وتكذيبهم.
والنسيان المنفي عن الله سبحانه هو النسيان الذي بمعنى الذهول والغفلة، فالله سبحانه منزه عن ذلك لكمال علمه وكمال بصيرته بأحوال عباده وإحاطته بكل شئونهم، فهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا ينسى ولا يغفل-تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وبذلك يعلم أن تفسير النسيان بالترك في قوله تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67] الآية ليس من باب التأويل، ولكنه من باب تفسير النسيان في هذا المقام بمعناها اللغوي؛ لأن كلمة النسيان مشتركة يختلف معناها بحسب مواردها كما بين ذلك علماء التفسير رحمهم الله، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى الآية ما نصه: (نَسُوا اللَّهَ [التوبة:67] أي نسوا ذكر الله فَنَسِيَهُمْ أي: عاملهم معاملة من نسيهم، كقوله تعالى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الجاثية:34])اهـ.
وهكذا ما ذكره الله سبحانه من استهزائه بالمستهزئين وسخريته بالساخرين ومكره بالماكرين وكيده للكائدين لا يحتاج إلى تأويل؛ لكونه من باب (الجزاء من جنس العمل) لأن السخرية منه سبحانه بالساخرين كانت بحق، وهكذا مكره بالماكرين واستهزاؤه بالمستهزئين وكيده للكائدين كله بحق، وما كان بحق فلا نقص فيه، والله سبحانه يوصف بذلك؛ لأن ذلك وقع منه على وجه يليق بجلاله وعظمته ولا يشابه ما يقع من الخلق؛ لأن أعداءه سبحانه فعلوا هذه الأفعال معاندة للحق كفرا به وإنكارا له، فعاملهم سبحانه بمثل ما فعلوا على وجه لا يشابه فيه أفعالهم ولا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، ومن كيده لهم ومكره بهم وسخريته بهم واستهزائه بهم هو إمهالهم وإنظارهم وعدم معاجلتهم بالعقوبة، ومن ذلك ما يظهره للمنافقين يوم القيامة من إظهاره لهم بعض النور ثم سلبهم إياه، كما قال في سورة الحديد: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ۝ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ۝ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:13-15].
وهكذا قال علماء التفسير من أهل السنة في هذا المعنى:
قال الإمام ابن جرير رحمه الله بعد أن ذكر أقوال العلماء في تفسير قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة:15]: (والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهار المستهزئ للمستهزأ به من القول والفعل ما يرضيه ويوافقه ظاهرا، وهو بذلك من قيله وفعله به مورثه مساءة باطنًا، وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر، وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، المدخل لهم في عداد من يشمله اسم الإسلام، وإن كانوا لغير ذلك مستبطنين من أحكام المسلمين المصدقين إقرارهم بذلك بألسنتهم، وبضمائر قلوبهم، وصحائح عزائمهم، وحميد أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم، مع علم الله بكذبهم، واطلاعه على خبث اعتقادهم، وشكهم فيما ادعوا بألسنتهم أنهم مصدقون، حتى ظنوا بالآخرة إذ حشروا في عداد من كانوا في عدادهم في الدنيا أنهم واردون موردهم، وداخلون مدخلهم، والله جل جلاله مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام المُلْحِقَتِهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه، وتفريقه بينهم وبينهم معد لهم من أليم عقابه ونكال عذابه ما أعد منه لأعدى أعدائه وأشر عباده حتى ميز بينهم وبين أوليائه، فألحقهم من طبقات جحيمه بالدرك الأسفل، كان معلوما أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم، وإن كان جزاء لهم على أفعالهم، وعدلا ما فعل من ذلك بهم؛ لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له كان بهم بما أظهر لهم من الأمور التي أظهرها لهم من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائه وهم له أعداء، وحشره إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين إلى أن ميز بينهم وبينهم-مستهزئا وساخرا ولهم خادعا وبهم ماكرا، إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل، دون أن يكون ذلك معناه في حال فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم، أو عليه فيها غير عادل، بل ذلك معناه في كل أحواله إذا وجدت الصفات التي قدمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره) اهـ.[4]
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] الآية قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان حدثنا ابن المبارك حدثنا صفوان بن عمرو حدثني سليم بن عامر قال: (خرجنا على جنازة في باب دمشق ومعنا أبو أمامة الباهلي، فلما صلى على الجنازة وأخذوا في دفنها، قال أبو أمامة: أيها الناس، إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر، وهو هذا-يشير إلى القبر-بيت الوحدة، وبيت الظلمة، وبيت الدود، وبيت الضيق إلا ما وسع الله، ثم تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة، فإنكم في بعض تلك المواطن حتى يغشى الناس أمر من الله؛ فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر فيغشى الناس ظلمة شديدة، ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نورا ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئا، وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه فقال: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40] فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، ويقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13] وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين حيث قال: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142] فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13] الآية إلا أنه يقول سليم بن عامر: فما يزال المنافق مغترًا حتى يقسم النور ويميز الله بين المنافق والمؤمن، ثم قال: حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عثمان حدثنا ابن حيوة حدثنا أرطأة بن المنذر حدثنا يوسف بن الحجاج عن أبي أمامة قال: يبعث الله ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله بالنور إلى المؤمنين بقدر أعمالهم فيتبعهم المنافقون فيقولون انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] وقال العوفي والضحاك وغيرهما عن ابن عباس: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورا، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلا من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم؛ فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون: ارجعوا وراءكم من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور)[5] انتهى ما ذكره الحافظ ابن كثير.
وبما ذكرناه عن ابن جرير وابن كثير-رحمة الله عليهما-يتضح للقارئ أن المكر والسخرية بالكافرين والخداع والاستهزاء بالمنافقين والكيد منه سبحانه لأعدائه، كله على بابه ولا يحتاج إلى تأويل، بل هو حق من الله وعدل وجزاء لهم من جنس عملهم، يليق به سبحانه وليس يماثل ما وقع من أعدائه؛ لأن صفة الله سبحانه وأفعاله تليق به، كلها حق وعدل ولا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه، وإنما يعلم العباد من ذلك ما أخبرهم به في كتابه الكريم أو على لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
يمدح العالم بموافقته للكتاب والسنة
18- نقل الصابوني في مقاله السادس وفي بعض مقالاته السابقة عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ما نصه: (العلماء أنصار علوم الدين، والأشاعرة أنصار أصول الدين) اهـ، وعزاه إلى المجلد الرابع من الفتاوى، وبمراجعة الفتاوى ص 16 من المجلد الرابع اتضح أن هذا الكلام من فتوى الفقيه أبي محمد لا من قول شيخ الإسلام، وبذلك يعلم وهم الأخ الصابوني في النقل المذكور، وهذا الكلام على فرض صحته لا يدل على أن الأشاعرة لا ينكر عليهم ما أخطئوا فيه، فإن القاعدة الشرعية كما نبه عليها شيخ الإسلام ابن تيمية  -رحمه الله-  وغيره أن العالم يمدح بما وافق فيه الكتاب والسنة، ويذم على ما خالف فيه الكتاب والسنة، وهذا الذي قاله -رحمه الله- هو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة، فالأشاعرة وغيرهم يمدحون على ما قالوه وكتبوه في نصر الحق في أبواب أصول الدين وفي غيرها، ويذمون على ما أخطئوا فيه إحقاقا للحق وردا للباطل؛ حتى لا يشتبه الأمر على من قل علمه. والله المستعان.
19-ذكر الصابوني في مقاله السادس ما نصه: (وفي الحديث الصحيح ثلاثة من أصول الإيمان: الكف عمن قال لا إله إلا الله، ولا نكفر مسلما بذنب، والإيمان بالأقدار) أو كما قالﷺ. اهـ.            
وبمراجعتنا لهذا الحديث في الأصول المعتبرة اتضح أنه ضعيف جدا وقد رمز له السيوطي في الجامع بعلامة الضعف، وأخرجه أبو داود من طريق يزيد بن أبي نشبة عن أنس ، ويزيد هذا مجهول كما في التهذيب والتقريب، قال المناوي في فيض القدير: (يزيد بن أبي نشبة -بضم النون- لم يخرج له أحد من الستة غير أبي داود، وهو مجهول كما قال المزي وغيره).
وبهذا يعلم أن جزم الأخ الصابوني بأنه صحيح ليس في محله، والأولى أن يقال في مثل هذا: (وروي عن النبيﷺ) فينقل بصيغة التمريض كما نص عليه أهل العلم في رواية الأحاديث الضعيفة، ولم يسق الأخ الصابوني لفظه كما ورد، وإليك أيها القارئ نصه عند أبي داود لمزيد الفائدة: حدثنا سعيد بن منصور ثنا أبو معاوية ثنا جعفر بن برقان عن يزيد بن أبي نشبة عن أنس ابن مالك قال قال رسول اللهﷺ: ثلاثة من أصل الإيمان: الكف عمن قال لا إله إلا الله ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار اهـ.
وهذا الذي دل عليه الحديث قد جاء في معناه أحاديث أخرى صحيحة، والقول بمعناه هو قول أهل السنة والجماعة، فإن أهل السنة يعتقدون أن من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، والتزم بمعناها، ولم يأت بناقض من نواقض الإسلام، فإنه يجب الكف عنه وحسابه على الله ، كما قال النبي ﷺ فيما رواه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله ومن عقيدة أهل السنة أن المسلم لا يكفر بذنب من الذنوب التي دون الشرك، ولا يخرج من الإسلام بعمل من الأعمال التي لا تلحقه بالمشركين خلافا للخوارج لقول الله : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
وكأن الأخ الصابوني ذكر هذا الحديث ليستدل به على وجوب الكف عن الكلام في الأشاعرة وبيان ما أخطئوا فيه، وهكذا ما أخطأ فيه غيرهم من الفرق الإسلامية. وليس الأمر كما زعم فإن الحديث المذكور لو صح لا يدل على شرعية الكف عن من خالف الحق، كما أنه لا يدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان ما أخطأ فيه المخطئون وغلط فيه الغالطون من الأشاعرة وغيرهم، بل الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة كلها تدل على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإنكار على من خالف الحق وإرشاده إلى طريق الصواب؛ حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة كما بينا ذلك فيما سبق.
وإنما المقصود من الحديث لو صح الكف عن قتال من أظهر الإسلام وتكلم بكلمة التوحيد حتى ينظر في أمره بعد ذلك ويعامل بما يستحق حسب الأدلة الشرعية، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها آنفا. والله سبحانه ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا آخر ما تيسر التنبيه عليه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه إمام المجاهدين ورسول رب العالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين[6].

  1. [-الفتاوى الحموية صـ 26-28]
  2. يعني العرق.
  3. ذكر الشيخ الألباني في صحيحه  (4: 191) أنه لم ير هذه الزيادة عند البخاري ولا عند غيره ممن ذكر من الذين أخرجوا هذا الحديث.
  4. تفسير الطبري جامع البيان جـ1-ص (103- 104)
  5. تفسير ابن كثير ج6 ص555، ص556
  6. نشر هذا الموضوع في كتاب نشرته الدار السلفية بالكويت عام 1404هـ والرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عام 1405هـ مع رد مماثل لفضيلة الشيخ د. صالح بن فوزان. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 3/ 51)