لا اعتبار لانخفاض المنازل في دخول الشهر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد شاء الله سبحانه أن تثبت رؤية هلال شهر شوال هذا العام، أعني عام 1389هـ ليلة الثلاثين من رمضان بشهادة عدلين، فأمر ولي الأمر باعتمادها والإفطار بموجبها فأفطر الناس في هذه البلاد بهذه الرؤية الشرعية، وشاء الله سبحانه أن تكون منازل الهلال في أول شوال ضعيفة، وانضاف إلى ذلك رؤية الناس للهلال مرتفعًا في الشرق قبل طلوع الشمس من اليوم التاسع والعشرين فأوجب ذلك شكًا لبعض الناس، وربما فيما وقع من الإفطار حتى سألني الكثير من الناس عن ذلك.
فلما رأيت الخوض بين الناس في هذا الموضوع أحببت أن أكتب كلمة في ذلك تتضمن بيان الأمر الشرعي في هذه المسألة رجاء أن يزول اللبس عمن وقع في نفسه شيء من هذا الأمر.
فأقول: قد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين[1] وفي لفظ آخر: فأكملوا العدة ثلاثين[2] وصح عنه ﷺ أنه قال: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار عليه الصلاة والسلام بيديه ثلاث مرات وخنس إبهامه في الثالثة ثم قال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا بأصابعه كلها[3]، أراد بإشارته الأولى إلى أن الشهر يكون تسعًا وعشرين، وأراد بإشارته الثانية إلى أن الشهر يكون ثلاثين.
وقال ﷺ: لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة[4].
وقال عليه الصلاة والسلام: لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثلاثين[5].
وأخرج أحمد والنسائي بإسناد حسن عن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب رضي الله عنهما عن جماعة من أصحاب رسول الله ﷺ أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا[6].
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وكلها تبين للأمة أنه لا اعتبار في الشرع المطهر للحساب، ولا لضعف منازل القمر، ولا لكبر الأهلة وضعفها، ولا لرؤية الهلال قبل طلوع الشمس من اليوم التاسع والعشرين، سواء كان منخفضًا أو مرتفعًا، وإنما الاعتبار شرعًا بالرؤية الشرعية بعد المغرب أو إكمال العدة، ولو كان ضعف المنازل، أو صغر الأهلة، أو رؤية الهلال في المشرق قبل طلوع الشمس من اليوم التاسع والعشرين، مما يؤثر في الرؤية لنبه عليه النبي ﷺ وبينه للناس؛ لأنه عليه الصلاة والسلام هو أنصح الناس وأقدرهم على البيان، وقد أوجب الله عليه أن يبلغ الناس ما أنزل إليهم من ربهم، وقد فعل ذلك عليه الصلاة والسلام على خير وجه وأكمله.
ومعلوم عند العقلاء أن الأهلة تختلف اختلافًا كثيرًا بحسب قربها من الشمس وبعدها، وحسب صفاء الجو وكدره، وحسب اختلاف أبصار الناس في القوة والضعف، ولذلك أناط المصطفى صلى الله عليه وسلم الحكم في هذا الأمر العظيم بالرؤية أو إكمال العدة ولم يجعل مناطًا آخر، فعلم بذلك أن من علق الحكم في الرؤية بأمر ثالث، فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله، وقد قال في إنكار ذلك: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] وقال النبي ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[7]، وقد أيد النبي ﷺ هذا الأمر وأوضحه للأمة بنوع آخر من البيان فقال ﷺ: الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون[8] أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بإسناد حسن، ولكن أبا داود لم يذكر الصوم، وخرج الترمذي بإسناد جيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس[9].
وخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال في الهلال: إن الله مده للرؤية[10] وفي رواية أخرى: إن الله قد أمده لرؤيته فإن غمي عليكم فأكملوا العدة[11].
وترجم عليه الإمام النووي رحمه الله بما نصه: "باب بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال وصغره وأن الله أمده للرؤية فإن غم فليكمل ثلاثون".
وقال أبو وائل شقيق بن سلمة: أتانا كتاب عمر بن الخطاب أن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس. قال الإمام النووي رحمه الله: أخرجه الدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح... انتهى.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رسالة كتبها في الأهلة نقلها الشيخ العلامة عبدالرحمن بن قاسم في المجلد الخامس والعشرين من مجموع الفتاوى ص 132 ما نصه: "فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم، أو الحج، أو العدة، أو الإيلاء، أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال، وبخبر الحساب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلًا.... إلى أن قال في ص 136: فالمقصود أن المواقيت حددت بأمر ظاهر بين يشترك فيه الناس. ولا يشرك الهلال في ذلك شيء... إلى أن قال: فظهر أنه ليس للمواقيت حد ظاهر عام المعرفة إلا الهلال" انتهى المقصود.
وقد أطال رحمه الله في هذه الرسالة وأطاب وأتى فيها بالعجب العجاب، ولولا خوف الإطالة لنقلت للقارئ منها كثيرًا، ولكنها ميسرة بحمد الله لمن أراد الوقوف عليها.
وقد علم مما ذكرناه من الأدلة وكلام بعض أهل العلم أن انخفاض المنازل وارتفاعها وكبر الأهلة وصغرها، ورؤية الهلال في المشرق قبل طلوع الشمس في اليوم التاسع والعشرين، واعتماد الحساب في دخول الشهور وخروجها، كل ذلك أمر لا يعول عليه، ولا يلتفت إليه؛ بل هو خلاف الأدلة وخلاف الإجماع وهذا هو المطلوب. وأرجو أن يكون بذلك كفاية ومقتنع لطالب الحق، وكشف لما قد يلتبس على بعض الناس، والله المستعان وهو ولي التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا به، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا وإمامنا محمد وآله وصحبه[12].
 
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز

 
  1. رواه مسلم في (الصيام) باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال برقم 1796.
  2. رواه البخاري في (الصوم) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الهلال برقم 1907.
  3. رواه البخاري في (الصوم) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا نكتب ولا نحسب " برقم 1913، ومسلم في (الصيام) باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال برقم 1080.
  4. رواه البخاري في (الصوم) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الهلال برقم 1907.
  5. رواه أحمد في (مسند الكوفيين) حديث رجل برقم 18071، والنسائي في (الصيام) باب ذكر الاختلاف على منصور برقم 2097 
  6. رواه أحمد في (مسند الكوفيين) حديث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم 18416، والنسائي في (الصيام) باب قبول شهادة الرجل الواحد على شهر رمضان برقم 2116.
  7. رواه البخاري في (الصلح) باب إذا اصطلحوا على صلح جور برقم 2697، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة برقم 1718.
  8. رواه الترمذي في (الصوم) باب ما جاء: الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون برقم 697.
  9. رواه الترمذي في (الصوم) باب ما جاء: الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون برقم 697. 
  10. رواه مسلم في (الصيام) باب بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال برقم 1088.
  11. رواه مسلم في (الصيام) باب بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال برقم 1088.
  12. بيان صدر من مكتب سماحته عندما كان نائبًا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 15/ 146).