الجمع بين حديثي "من سن سنة حسنة" و"كل بدعة ضلالة"

السؤال:
أولى رسائل هذه الحلقة رسالة وصلت إلى البرنامج من الجماهيرية العربية الليبية، باعثها مستمع من هناك رمز إلى اسمه بالحروف: (ن. ع. ف)، أخونا يسأل ويقول: هناك من يقول: بدعةٌ حسنة، ودليله حديث رسول الله ﷺ : من سن سنة حسنة؛ فله أجرها، وأجر من عمل بها، ومن سن سنةً سيئة؛ فله وزرها ووزر من عمل بها، وحينما أرد عليهم بقول رسول الله ﷺ : كل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، فهنا لفظ (كل) شمل البدع كلها، فيردون علي بهذا الحديث، فهل قولهم صحيح؟ وهل هناك تضاربٌ بين هذين الحديثين؟ أفيدونا يرحمكم الله جزاكم الله خيرًا.

الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فليس بين الحديثين بحمد الله اختلاف ولا تضارب، بل قوله عليه الصلاة والسلام: كل بدعة ضلالة، كلامٌ عامٌ محكم، يشمل جميع البدع، ولا يستثنى منه شيء، وقد جاء هذا عنه في عدة أحاديث، منها ما رواه مسلم في الصحيح عن جابر ، قال: كان النبي ﷺ يقول في خطبته: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة، زاد النسائي رحمه الله: وكل ضلالةٍ في النار، ومنها ما رواه أبو داود وغيره من حديث العرباض بن سارية ، عن النبي ﷺ أنه قال: إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وهذا عام لا يستثنى منه شيء.
فجميع البدع التي أحدثها الناس: قولية، أو فعلية، أو عقدية، كلها داخلة في هذا الحديث، كما أنها داخلة في قوله عليه الصلاة والسلام: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، متفقٌ على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها، وفي روايةٍ لـمسلم ، عنها رضي الله عنها، عن النبي ﷺ أنه قال: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد والمعنى: فهو مردود.
فجميع البدع التي أحدثها الناس كلها داخلة في هذه الجملة: وكل بدعةٍ ضلالة، ويجب الحذر منها، والتحذير منها.
أما قوله ﷺ: من سن في الإسلام سنةً حسنة، كان له أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها، ووزر من عمل من بعده، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا، فهذا الحديث في إحياء السنن، وإظهارها، وليس في إحداث البدع، ولكنه في إظهار السنن، ونشرها بين الناس، عند جهلهم بها، وإماتتهم لها، فالذي يحيي السنن، ويظهرها، وينشرها بين الناس؛ له هذا الأجر العظيم، له أجر ذلك، ومثل أجور من عمل بالسنة بأسبابه.
فقوله: من سن يعني: من أظهر السنن، وأحياها، وبينها للناس، ويدل على هذا سبب الحديث، فإن سبب الحديث أنه ﷺ رأى جماعةً من مضر مجتابي النمار قد ظهرت عليهم الفاقة والحاجة، فخطب الناس بعد الصلاة عليه الصلاة والسلام، وقرأ قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وآية الحشر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، ثم قال: تصدق رجلٌ من درهمه، من ديناره، من ثوبه، من صاع بره، من صاع شعيره... الحديث، فجاء رجلٌ من الناس بصرةٍ من فضة، كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، فلما رأى النبي ﷺ هذا الرجل، ورأى تتابع الناس في الصدقة بسبب أسبابه، قال: من سن في الإسلام سنةً حسنة. يعني: أظهرها، وبينها، وسارع إليها، حتى اقتدى به الناس فيها، وبذلك يتضح للسائل وغيره أن معنى الحديث: من سن في الإسلام سنة حسنة...، معناه: إظهارها، وبيانها، ونشرها بين الناس، والمسارعة إلى ذلك، وأن هذا الفاعل يكون له أجره، ويكون له مثل أجور من تابعه في ذلك. نعم.
المقدم: جزاكم الله خيرًا. 
فتاوى ذات صلة