ما معنى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}؟

السؤال:

أولى رسائل هذه الحلقة رسالة وصلت إلى البرنامج من الجمهورية العربية السورية، حماة، باعث الرسالة المستمع أنور الحسين أخونا يقول: أرجو أن تتفضلوا بتفسير قول الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان:59]، جزاكم الله خيرًا. 

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه.

هذه الآية من آيات الصفات، فالله -جل وعلا- بين فيها، وفي غيرها أنه خالق السماوات والأرض، وما بينهما، فهو الخلاق العليم لكل شيء، لا خالق سواه، ولا رب سواه  قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62]، وقال سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [الفرقان:59]، هذا وصف لنفسه بأنه استوى على العرش، وهذا في سبعة مواضع من القرآن، قال -جل وعلا- في سورة طه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وفي سورة الأعراف: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54].

فهذه الآية العظيمة وما جاء في معناها في المواضع السبعة كلها دالة على إثبات الاستواء، وأن الله -جل وعلا- استوى على العرش استواءً يليق بجلاله، وعظمته، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته، بل هو سبحانه له صفات خاصة تليق به على أكمل وجه، وخير وجه، كما قال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، قال سبحانه: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، قال : هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، قال سبحانه: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74].

فالاستواء هو العلو والارتفاع، يعني: ارتفع فوق العرش، وعلا فوق العرش ارتفاعًا يليق بجلاله، لا يشابه خلقه في استوائهم على سطوحهم، أو على سفنهم، أو على سياراتهم، لا، استواء يليق به، وارتفاع يليق به، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته، لكنه العلو، ولهذا يقال: استوى على السفينة، يعني: صار فوقها، استوى على السطح؛ صار فوقها، استوى على الدابة؛ صار فوقها، فالاستواء على الشيء العلو فوقه، والارتفاع فوقه، لكن استواء الرب يليق به، لا يشابه المخلوقات في استوائها.

وهكذا بقية الصفات، الرحمة رحمة تليق بالله، فهو الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، رحمته خاصة وعامة تعم المخلوقات كلهم، ورحمته خاصة بالمؤمنين تخصهم، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43]، إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:117].

فالمقصود: أن الرحمة وصف خاص غير الإرادة، بعض أهل العلم يأول يقول: الرحمن معناه: إرادة الإنعام، والرحمة إرادة الإنعام، هذا غلط، هذا تأويل، والصواب عند أهل السنة أن الرحمة غير الإرادة، الإرادة صفة مستقلة، له سبحانه إرادتان: قدرية، وشرعية. 

فالقدرية مثل قوله -جل وعلا-: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]  ومثل قوله -جل وعلا-: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125].

وهناك شرعية مثل قوله -جل وعلا-: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:26] إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33] هذه إرادة شرعية، يعني: أراد الله شرعًا أن يطهر أهل بيت النبي ﷺ وأراد شرعًا أن يبين للناس أحكام دينهم، ويفهمهم إياه، لكن من الناس من يفهم ويتعلم، ومن الناس من يعرض، ليس كلهم مهتدين.

أما الإرادة القدرية فهي نافذة، لا يمنعها شيء، كما قال : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، هذه إرادة قدرية نافذة، وهكذا قوله جل وعلا: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125]، هذه إرادة كونية، إذا أراد الله هداية العبد إرادة كونية؛ شرح صدره للإسلام ومن عليه بالقبول حتى يهتدي.

وهكذا الغضب صفة خاصة تليق بالله، بعض العلماء يقول: إرادة الانتقام، وهذا غلط، الإرادة غير الانتقام، الإرادة شيء، والغضب شيء آخر، والغضب يوصف الله به كما قال -جل وعلا-: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ [النساء:93] يعني: قاتل النفس.

فالمقصود: أن الغضب وصف لله، يغضب على أعدائه غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، من اليهود والنصارى والكفرة مغضوب عليهم، غضب الله وصف يليق بالله، لا يشابه الخلق فيه، كالرضا وكالرحمة وكإلارادة وغير ذلك صفة مستقلة، فهو رحيم بالمؤمنين، رحيم بالناس، ويغضب على من عصاه، وخالف أمره، وغضبه يليق به، لا يشابه غضب المخلوقين، كما أن رضاه لا يشابه رضا المخلوقين، وهكذا استواءه، وهكذا محبته، وهكذا رحمته، كلها صفات حق، لا تشابه صفات المخلوقين عند أهل السنة والجماعة؛ لأن الله سبحانه يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، هو سبحانه الرحمن، وهو الرحيم موصوفًا بالرحمة، صفة تليق بالله، لا يشابه فيها خلقه -جل وعلا- يغضب على من عصاه غضبًا يليق بالله، لا يشابه خلقه في غضبهم. 

وهكذا إرادته، وهكذا يده، وهكذا سمعه، وبصره، كلها صفات تليق بالله، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته -جل وعلا- نعم.

المقدم: جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم.

من الأسئلة التي يسألها أخونا حول هذه الآية الكريمة سؤال يقول: هل الأيام المذكورة في هذه الآية الكريمة هي كأيامنا، أم أن اليوم بألف سنة كما في بعض الآيات الكريمة؟

الشيخ: الله أعلم، لكن ظاهر إطلاق الرب -جل وعلا- أنها كأيامنا، يعني: أطلق بالنسبة للستة الأيام، ويحتمل أنها كل يوم بألف كما قال -جل وعلا-: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، لكن إطلاقه الآيات في هذا يدل على أنها كأيامنا، وهو سبحانه قادر أن يخلق كل شيء في لحظة، كن فيكون، لكنه -جل وعلا- خلقها في أيام؛ ليعلم عباده تنظيم أمورهم، وتنظيم أعمالهم حتى لا يعجلوا، فهو قادر على أن يخلقها في لحظة، ومع هذا خلقها في ستة أيام، وهو قادر على أن يخلقها في أقل من ذلك -جل وعلا- لتعليم عباده وتوجيههم إلى العناية بالأمور، وعدم العجلة في الأمور؛ حتى يوقعوا الأشياء، ويوجدوها على الوجه الذي يليق، نعم.

المقدم: جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم. 

فتاوى ذات صلة