بيان خطأ من جعل جدة ميقاتًا لحجاج الجو والبحر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه، أما بعد:
فقد اطلعت على ما كتب في التقويم القطري بإملاء فضيلة الشيخ عبدالله بن إبراهيم الأنصاري صفحة 95، 96 حول المواقيت للوافدين إلى مكة بنية الحج أو العمرة فألفيته قد أصاب في مواضع وأخطأ في مواضع خطأً كبيرًا، فرأيت أن من النصح لله ولعباده التنبيه على المواضع التي أخطأ فيها؛ راجيًا بعد اطلاعه على ذلك توبته عما أخطأ فيه ورجوعه إلى الحق؛ لأن الرجوع إلى الحق شرف وفضيلة وهو خير من التمادي في الباطل بل هو واجب لا يجوز تركه؛ لأن الحق واجب الاتباع، فأقول:
أولًا: ذكر -وفقه الله- في الفقرة الثالثة من كلمته ما نصه:
"القاصدون عن طريق الجو لأداء الحج والعمرة إذا كانت النية منهم الإقامة بجدة ولو يومًا واحدًا ينطبق عليهم حكم المقيمين بجدة والنازلين بها فلهم أن يحرموا من جدة" انتهى.
وهذا كلام باطل وخطأ ظاهر مخالف للأحاديث الصحيحة الواردة في المواقيت ومخالف لكلام أهل العلم في هذا الباب ومخالف لما ذكره هو نفسه في الفقرة الأولى من كلمته المشار إليها آنفًا؛ لأن النبي ﷺ وقت المواقيت لمريدي الحج والعمرة من سائر الأمصار ولم يجعل جدة ميقاتًا لمن توجه إلى مكة من سائر الأمصار والأقاليم وهذا يعم الوافدين إليها من طريق البر أو البحر أو الجو.
والقول بأن الوافد من طريق الجو لم يمر عليها قول باطل لا أساس له من الصحة؛ لأن الوافد من طريق الجو لابد أن يمر قطعًا بالمواقيت التي وقتها النبي ﷺ أو على ما يسامتها فيلزمه الإحرام منها، وإذا اشتبه عليه ذلك لزمه أن يحرم في الموضع الذي يتيقن أنه محاذيها أو قبلها حتى لا يجاوزها بغير إحرام، ومن المعلوم أن الإحرام قبل المواقيت صحيح، وإنما الخلاف في كراهته وعدمها، ومن أحرم قبلها احتياطًا خوفًا من مجاوزتها بغير إحرام فلا كراهة في حقه، أما تجاوزها بغير إحرام فهو محرم بالإجماع في حق كل مكلف أراد حجًا أو عمرة؛ لقول النبي ﷺ في حديث ابن عباس المتفق عليه لما وقت المواقيت: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة[1]، ولقوله ﷺ في حديث ابن عمر المتفق عليه: يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن[2]، وهذا اللفظ عند أهل العلم خبر بمعنى الأمر فلا تجوز مخالفته، وقد ورد في بعض الروايات بلفظ الأمر وذلك بلفظ «ليهل» والقول بأن من أراد الإقامة بجدة يومًا أو ساعات من الوافدين إلى مكة من طريق جدة له حكم سكان جدة في جواز الإحرام منها قول لا أصل له، ولا أعلم به قائلًا من أهل العلم.
فالواجب على من يوقع عن الله ويفتي عباده في الأحكام الشرعية أن يتثبت فيما يقول وأن يتقي الله في ذلك؛ لأن القول على الله بغير علم خطره عظيم وعواقبه وخيمة.
وقد جعل الله سبحانه القول عليه بلا علم في أعلى مراتب التحريم لقوله : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]
وأخبر سبحانه في آية أخرى أن ذلك مما يأمر به الشيطان فقال سبحانه: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ۝ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:168- 169] وعلى مقتضى هذا القول الباطل لو أراد من توجه من المدينة إلى مكة بنية الحج والعمرة أن يقيم بجدة ساعات جاز له أن يؤخر إحرامه إليها، وهكذا من توجه من نجد أو الطائف إلى مكة بنية الحج أو العمرة وأراد الإقامة في لزيمة أو الشرائع يومًا أو ساعات جاز له أن يتجاوز قرنًا غير محرم ويكون له حكم سكان لزيمة أو الشرائع. وهذا قول لا يخفى بطلانه على من تأمل النصوص وكلام أهل العلم، والله المستعان.
ثانيًا: ذكر الشيخ عبدالله الأنصاري في الفقرة الخامسة ما نصه: "يجوز لمن يقصد أداء العمرة أن يتجه إلى التنعيم فيحرم منها حيث أنها الميقات الشرعي" انتهى، وهذه العبارة فيها إجمال وإطلاق فإن كان أراد بها سكان مكة والمقيمين بها فصحيح، ولكن يؤخذ عليه قوله: "إن التنعيم هو الميقات الشرعي" فليس الأمر كذلك بل الحل كله ميقات لأهل مكة والمقيمين بها فلو أحرموا من الجعرانة أو غيرهما من الحل فلا حرج وكانوا بذلك محرمين من ميقات شرعي، وقد أمر النبي ﷺ عبدالرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة إلى الحل لما أرادت العمرة، وكونها أحرمت من التنعيم لا يوجب ذلك أن يكون هو الميقات الشرعي وإنما يدل على الاستحباب كما قاله بعض أهل العلم؛ لأن في بعض الروايات من حديثها أن النبي ﷺ أمر عبدالرحمن يعمرها من التنعيم وذلك -والله أعلم- لكونه أقرب الحل إلى مكة جمعًا بين الروايات. 
أما إن أراد بهذه العبارة أن كل من أراد العمرة له أن يحرم من التنعيم ولو كان في جهة أخرى من الحل فليس بصحيح؛ لأن كل من كان في جهة من الجهات خارج الحرم ودون المواقيت فإن ميقاته من أهله للحج والعمرة جميعًا لقول النبي ﷺ في حديث ابن عباس المتفق عليه: ومن كان دون ذلك -يعني دون المواقيت- فمهله من أهله وفي لفظ: فمهله من حيث أنشأ وقد أحرم النبي ﷺ من الجعرانة عام الفتح لما فرغ من تقسيم غنائم حنين فلم يذهب إلى التنعيم، والله ولي التوفيق.
ثالثًا: ذكر الشيخ عبدالله في الفقرة السادسة والسابعة ما نصه: "لا حجة لمن يقول بأن القاصد إلى جدة بالطائرة يمر بالميقات؛ لأنه لا يمر بأي ميقات من المواقيت بل هو هائم أو طائر في الجو ولم ينزل إلا بجدة" ونص الحديث: "ولمن مر بهن" ولا يعتبر من كان طائرًا بالهواء بأنه مار بأي ميقات" انتهى كلامه.
وهذا القول غير صحيح، وقد مضى الرد عليه آنفًا، وقد سبق الشيخ عبدالله الأنصاري إلى هذا الخطأ الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود في مقال وزعه زعم فيه أن الوافد من طريق الجو أو البحر إلى مكة لا يمر على المواقيت وزعم أن ميقاته جدة، وقد أخطأ في ذلك كما أخطأ الشيخ عبدالله الأنصاري فالله يغفر لهما جميعًا، وقد كتب مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ردًا على الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود في زعمه أن جدة ميقات للوافدين إلى مكة من الحجاج والعمار من طريق الجو أو البحر ونشر الرد في وقته، وقد أصاب المجلس في ذلك وأدى واجب النصح لله ولعباده، ولا يزال الناس بخير ما بقي فيهم من ينكر الخطأ والمنكر ويبين الصواب والحق.
وما أحسن ما قاله الإمام مالك رحمه الله: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني رسول الله ﷺ.
وأسأل الله أن يغفر لنا جميعًا وأن يمنحنا وسائر إخواننا إصابة الحق في القول والعمل والرجوع إلى الصواب إذا وضح دليله إنه خير مسؤول.
رابعًا: ذكر الشيخ عبدالله الأنصاري هداه الله في الفقرة الثامنة والتاسعة ما نصه: "على من يريد مواصلة سيره إلى مكة لأداء نسكه أن يجهز إحرامه من آخر مطار يقوم منه وينوي قبل جدة بمقدار عشرين دقيقة إذا كان قصده مواصلة السير بدون توقف أو إقامة في جدة، أما الذي يقيم بجدة ولو ساعات يجوز له أن يحرم من جدة إن شاء الله وينطبق عليه حكم ساكن جدة" انتهى كلامه.
وقد سبق أن هذا التفصيل والتحديد لا أساس له من الصحة وأن الواجب على من أراد الحج أو العمرة من الوافدين إلى مكة من طريق الجو أو البحر الإحرام بالنسك الذي أرادوا من حج أو عمرة إذا حاذوا الميقات الذي في طريقهم أو سامتوه، ولا يجوز لهم تأخير الإحرام ولو نووا الإقامة بها يومًا أو ساعات فإن شكوا في المحاذاة لزمهم الإحرام من المكان الذي يتيقنون فيه احتياطًا للواجب، وإنما الكراهة عند بعض أهل العلم في حق من أحرم قبل الميقات بدون عذر شرعي.
وأسأل الله أن يهدينا جميعًا صراطه المستقيم، وأن يوفقنا وجميع علماء المسلمين لإصابة الحق في القول والعمل، وأن يعيذنا جميعًا من القول عليه بلا علم إنه سميع قريب، ولواجب النصح للمسلمين جرى تحريره وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه[3].

 
  1. رواه البخاري في (الحج) باب مهل أهل الشام برقم 1526، ومسلم في (الحج) باب مواقيت الحج والعمرة برقم 1181. 
  2. رواه البخاري في (الحج) باب ميقات أهل المدينة برقم 1525، ومسلم في (الحج) باب مواقيت الحج والعمرة برقم 1182.
  3. نشر في مجلة (الدعوة) العدد 826 بتاريخ 1402هـ، وفي (مجلة التوعية الإسلامية في الحج) ص 20 العدد الأول عام 1402هـ، وفي (مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة) العدد 53 السنة الرابعة عشر عام 1402هـ، وفي (مجلة البحوث الإسلامية) العدد 6 ص 282، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 17/ 23).