عالمية الشيخ ابن باز

أ.د. عبدالقادر بن عبدالرحمن الحيدر
 
لقد حزنت وذرفت بالدموع عيون الشيوخ والشباب والرجال والنساء وكل المسلمين في هذه الأرض المباركة وفي غيرها من بقاع العالم عندما سمعت نبأ وفاة الإمام الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، العالم الرباني، وقد أخذ الناس يعزي بعضهم بعضاً بوفاة الشيخ في كل مكان، بل تحول نقاش المجالس إلى تدارس سيرة وشخصية هذا العالم الرباني الفذ الذي يعد من أبرز علماء الإسلام في عصوره المتتالية، وقد وهب الله لفقيد الأمة خواص وصفات ميزه بها عن غيره، فأكسبه القبول وإكبار الناس له.
لازلت أتذكر البرامج الدينية المتلفزة التي يلقيها فضيلة الشيخ علي الطنطاوي الذي قال عن الشيخ - رحمه الله - لقد رزق شيخنا بالقبول التام من جميع مسلمي العالم، فهذه الدرجة من القبول أكبر دلالة على كونه إماما وشيخا عالميا، فهذه الدرجة لم تتأت من فراغ، بل إن سماحته - رحمه الله - مع الخصال الطيبة التي قلما تتوافر مجتمعةً أو بعضها في شخص واحد في زماننا هذا؛ فإن سألت عن العلم الشرعي فحسبك به عالما بكتاب الله وسنة رسوله، فلقد سمعت من أحد طلبة العلم في الحديث عندما كنت في أمريكا أنه قال:
كنت أتصور أن أحد العلماء المشهورين هو أعلم الناس بالحديث النبوي، إلا أن الله سبحانه وتعالى جمعني بسماحة الشيخ عبدالعزيز في مجلس واحد في مكة المكرمة، فوجدت شيخ الحديث ما هو إلا طالب مبتدئ عند سماحته.
وإن سألت عن الدعوة فسماحته أعظم من قدم للدعوة، فلا تكاد تخلو منطقة في العالم ليس لسماحته يد طيبة في دعوة أهلها والتأثير بهم، وقد تعجب عندما تذهب إلى بيت سماحته حيث تجده إنسانا معجزة في معرفة المسلمين والدعاة بأسمائهم وأوضاعهم؛ وكأنه قد أقام بين ظهرانيهم - علما بأنه لم يسافر - وهذا دليل على أن الدعوة تمشي في عروق دمه، بل هي غذاؤه الذي لا يمكن أن يجلس لحظة بدونه.
وإن بحثنا عن إسهاماته في نشر العلم فإننا نرى أن غالبية المشايخ والعلماء قد تتلمذوا عليه، فنحن نعجب كثيرا من مقدرة الشيخ في إعطاء المحاضرات والدروس اليومية وذلك على الرغم من انشغالاته الكثيرة، فهو يضعنا نحن الأساتذة والمدرسين في الحرج والشعور بالتقصير لقلة عطائنا.
كما أن سماحته - وإن كان زاهدا في الدنيا ومظاهرها - إلا أنه لم يزهد عن طلب العلم حتى عند لحظات موته.
أما ما يخص الفتوى، فقد انتشرت فتاواه وكانت مطلب الناس وغايتهم، حيث إنه ييسر ولا يعسر وقد سهل طريق الوصول إلى معرفة الصواب بأيسر سبيل وأنجح أسلوب، كما أنه - وقد فتح الله على قلبه - رحمه الله - سرعة الاستنباط وحل المعضلات - هو بحق يستحق لقب (سماحة) كما أنه قريب كل القرب من أنفس الناس يعاملهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد اتصف - رحمه الله - برحابة الصدر والحلم ولين الجانب وحسن المعاملة، وإن سألت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنك تجده من أكبر القائمين بهذا العمل، فهو الموجه الناصح المخلص الموفق الذي استطاع بحكم نيته وصدق مقولته وقبول الناس له أن يحل الكثير من المعضلات بأسلوب هادئ متزن.
أما إن بحثنا عن الأمور الاجتماعية فإننا نجده إنسانا يحب الناس حبا صادقا، ودائما يكون بشوشا يحب إسعاد ضيوفه، وهو بجانب ذلك شهم جواد كريم، فإن استطاع أن ينفس عن السائل بماله فلن يتردد أبدا وإلا فإنه يستخدم جاهه في الشفاعة والكتابة إلى من يلزم ويتابع ذلك بنفسه، فقد كان - رحمه الله - حلقة وصل بين السائلين وبين ولاة الأمر والمسؤولين، حيث يشكل لُحمة التواصل بين المواطن والمسؤول.
إن كل ما سلف من الصفات وغيرها مما ذكره غيري جعلت سماحته - رحمه الله - شخصية إسلامية عالمية مقبولة فقدها العالم الإسلامي، ولكن لابد لنا من وقفات:
  • الوقفة الأولى: أن كثيرا مما يقوم به شيخنا - رحمه الله - هي من فروض الكفاية التي أصبحت بعد رحيله من الواجبات في أعناق العلماء والدعاة المسؤولين وعامة الناس، فحتى نحتفظ بهذا الإرث العظيم الذي هو شرف لنا جميعا، فإنه لابد من دعم مشاريعه الدعوية التي قام بها من تمويل الدعاة والأيتام ونحوها، وقد يتطلب ذلك تشكيل مؤسسة خيرية تحمل اسم سماحته حتى يبقى ذلك من الأشياء المكملة لعمله في هذه الدنيا.
  • الوقفة الثانية: لابد من جمع سيرة حياة سماحته في كتب أو كتيبات وأشرطة سمعية ونحوها؛ لأن حياته تمثل منهجا تربويا للدعاة والمربين، كما أنه فخر لهذا البلد وأهله. [1]
  1. جريدة الجزيرة ، الإثنين 2 صفر 1420هـ .