ورعه وثقته بربه

أن يعلم الإنسانُ حقيقة حياته في هذه الأرض وأنه مستخلَفٌ فيها، ومهما طالت به هذه الحياة المؤقتة سيصير يومًا إلى عالَم آخر فيه الحياة الأبدية، وبحسب عمله في الحياة المؤقتة يكون جزاؤه في الحياة الأبدية؛ فذلك علم ضروري يوجب عليه أن يعمل لآخرته، ويسعى لنيل رضا ربه، والفوز بجنانه.
هذا ما أيقنه شيخنا - رحمه الله - فلذلك كان ينظر إلى الدنيا نظرة العارف بحقيقتها، العالم بحكمة خِلْقتها، فلم تغرّه بزينتها، أو تخدعه ببَهْرَجها، رغم أنها أتته متزينةً، وسعت إليه راغمةً، إلا أنه تعلَّق بربه وسعى لمرضاته، فلم يأخذ منها إلا ليُعطي غيره، مجتنبًا شهواتها، ومبتعدًا عن فِتَنِها، ومُتخلِّقًا بأخلاق الأتقياء، وسائرًا على درب الأولياء، فالورع سمته، والتقوى خلُقه؛ كذا نحسبه والله حسيبه.
ونجد بعض دلائل ذلك فما يأتي:

إخلاص العمل لله:
حرص سماحة الشيخ - رحمه الله - طيلة حياته – كما نحسبه والله حسيبه - على أن تكون أعماله خالصةً لله تعالى، فلم يسعَ في يوم من الأيام لنيل شهرة، أو الفوز بجائزة، أو كسب قلوب الناس والفوز برضاهم على حساب دينه، بل كان متوجِّهًا بقلبه وجوارحه إلى الله تعالى، يُراقبه فيما يأتي ويذر، فيمتثل أوامره، ويجتنب نواهيه، مقتديًا في كل ذلك بنبيه ﷺ.
قال الدكتور ناصر الزهراني: "لم يكن الشيخ - رحمه الله - باحثًا عن سمعةٍ، أو لاهثًا وراء المديح، أو متطلعًا للثناء، بل كان في كل ما يعمل وما يذر يقصد وجه الله تعالى، كما نحسبه والله حسيبه، وكما علمنا ذلك من واقع المعايشة والمتابعة". [1]
ومن دلائل ذلك: أنه لم يكن يُحب التصدر أو الظهور، لقد بسطت جميع الوسائل المسموعة والمقروءة والمرئية أذرعتها لاحتضان الشيخ، وأشرعت أبوابها لاستقباله، وارتمى كثير منها عند قدمه، فلم تظفر منه بشيءٍ من ذلك، فهو يهرب من الأضواء، ويكره الضَّجيج، ويبتعد عن مواطن الشُّبَه، مهما أُوِّلت له التأويلات، وذُكرت له المبررات.
كما أنه أيضًا لم يكن يسمح لأحدٍ من الشُّعراء والأدباء بإنشاد الشعر في إطرائه أو مديحه، وإذا تجرأ بعضهم على شيءٍ من ذلك فإنه يُوقفه في أثناء القصيدة، ولا يدعه يُكملها. [2]
فذات يوم كتب أحدُ طلبة العلم قصيدةً في مدح الشيخ تجاوزت الخمسين بيتًا، وأعطاها للأستاذ فهد البكران طالبًا منه أن يقرأها على سماحة الشيخ، فلما جلس الأستاذ فهد مع الشيخ أخبره عن أمر القصيدة، فقال له شيخنا: والله لا نرغب في ذلك، ولكن اقرأها، فلما بدأ في قراءتها جعل الشيخ يستغفر ويُحوقل، وكلما قرأ بيتًا زاد استغفار الشيخ وذكره لله، حتى إذا أتم قراءة سبعة أبيات قال له الشيخ: هل تريد نشرها في مجلة الدعوة؟، فقال: إن أذنتم لنا بذلك، قال: لا! لا! مزِّقْها، مزِّقْها، ثم أشاح بوجهه إلى الجهة الأخرى، وهو يستغفر ويُحوقل. [3]
وإذا جاءته رسائل بُدِئَتْ بالمديح والإطراء يقول لقارئيها: اتركوا المقدمة، اقرؤوا المقصود، ماذا يريد صاحبها؟ أنا لا أحب أن أسمع مثل هذا الكلام. [4]
وكان يرفض أن يأخذ مقابلًا على ما يُلقيه من أحاديث إذاعية أو ما يكتبه من مقالات صحفية أو غير ذلك من أمور الدعوة إلى الله تعالى، ويحتسب ذلك عند ربه سبحانه، فقد أرسلت له وزارة الإعلام السعودية سنة 1384هـ مكافأةً ماليةً مقابل ما سجَّلته مع سماحته من أحاديث إذاعية، فرد الشيخُ المالَ وأخبرهم أنه لا يأخذ مقابلًا على العمل الدعوي، كما ردَّ المكافأة المالية التي أرسلتها مجلةُ (منار الإسلام) الإماراتية نظير مقاله الذي نشرته المجلة سنة 1399هـ، وكان بعنوان (خطر مشاركة المرأة للرجل في عمله)، وجاء في ردِّ الشيخ عليهم: وأخبركم أنه ليس من عادتنا أخذ مكافأة على ما ننشره من المقالات في الدعوة إلى الحق. [5]

تورعه في الفتوى:
لم يكن شيخنا - رحمه الله - من أولئك المتعجلين في الفتوى، الراغبين في إظهار علمهم، وأنهم أهلٌ لأن يُسألوا ويحتفي بهم الناس، بل كان متأنِّيًا، يُحسن الاستماع إلى المستفتي، فإذا ما أشكل عليه الأمر ولم يعلم الجواب لم يستحِ من قول: لا أدري، أو الله أعلم، أو ما عندي علم، أسأل إخواني طلبة العلم وأخبركم إن شاء الله، ونحو ذلك.
يقول الشيخ عبدالرحمن بن عبدالعزيز العقل: "رغم ما رزقه الله من علمٍ غزيرٍ فقد سمعته عشرات المرات يقول إذا سُئِل: "الله أعلم" في مسائل يُفتي بها سائرُ الناس، فضلًا عن طلبة العلم". [6]
ويقول الشيخ محمد الموسى: "لا يأنف من قول: لا أدري، لا أعلم، أتوقف، فكثيرًا ما يقول ذلك حين يُسأل وهو لا يعلم، سواء كان ذلك في مجالسه الخاصة، أو العامة، أو في المحاضرات، أو المساجد، أو في الإذاعة.
وفي عام 1402هـ كان يُلقي درسًا في الحرم، فسُئل: هل الأنثى مثل الذكر يُحلق رأسها ويُوزن ويُتصدّق بوزنه ورقًا؟ فأجاب - رحمه الله - بقوله: ما عندي علم، أسأل إخواني طلبة العلم وأخبركم إن شاء الله.
ولا أحصي ما يرد بمثل هذا، أو يقول: سنبحث في كلام أهل العلم، أو يُكتب لمعالي الأمين العام لهيئة كبار العلماء لبحث المسألة، أو يعمد بعض طلبته أو بعض الباحثين بذلك". [7]

تورعه في قبول الهدية:
لأن سماحة الشيخ - رحمه الله - كان في عمل حكومي فقد تورع عن قبول الهدايا والمكافآت، وإذا ألح المهْدِي في قبولها وعلم الشيخُ أنه لا يبتغي من ورائها شيئًا؛ قبلها وكافأه عليها بما يناسب مقامه، فكان يقول للعاملين معه: إذا كانت تُساوي مئةً فأعطوه مئتين، وإذا كانت تساوي مئتين فأعطوه أربعمئة، وأخبروه بألا يُقدِّم لنا شيئًا مرةً أخرى.
أما إذا كان مقامُ المهْدِي لا يليق معه إعطاء الأموال ولا يعلم الشيخ ما يُناسبه من الهدايا؛ فإنه يكتب إليه رسالةَ شكرٍ على هديته، ويدعو له، وربما طلب منه ألا يُرسل شيئًا مرةً أخرى بأسلوبٍ رقيقٍ يُراعي مشاعر المهدي ويلقى القبولَ عنده.
من ذلك: أن سفير المملكة في باكستان أرسل إلى سماحته هدايا سنة 1401هـ، فكتب سماحته إليه هذا الخطاب:
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم معالي الشيخ سمير الشهابي، سفير جلالة الملك في الباكستان، جعله الله مباركًا أينما كان، وزاده من العلم والإيمان، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
بعده يا محب، تلقيت كتابكم الكريم، وهداياكم الثمينة: العطور، والعود، والعسل، أكثر الله من خيركم، وشكر سعيكم، وجزاكم عنا خيرًا.
والحقيقة أيها المحب أنه ليس بودي أن تتكلَّفوا بإرسال شيءٍ لأمرين:
أحدهما: أنه ليس من عادتي قبول الهدايا؛ لكوني عاملًا، ولا يخفى عليكم ما في ذلك.
والثاني: عدم قيامي بالمكافأة؛ وذلك لعدم معرفتي لما يناسب معاليكم.
وللعجز عن المكافأة نقابل ذلك بالدعاء لمعاليكم بظهر الغيب، فذلك والله مبذول لكم، ونشهد الله على محبتكم، ولا نزال نواصل الدعاء لكم بالتوفيق والسداد والمعونة على أداء ما حملتم.
وأرجو حفظكم الله الاكتفاء بما وصل إلينا أولًا وآخرًا، ففيه الكفاية، ونسأل الله أن يُكافئكم على ما نعجز عن مكافئتكم عليه، وأن يتولاكم بعنايته ورعايته، إنه خير مسئول وأكرم مجيب.
وإذا أُهدي للشيخ طِيب أو سِواك أو عباءة ونحو ذلك كان سماحته يُهديه إلى مَن بجانبه ويقول له: هدية مني لك.

تورعه فيما تحت يده من أموال:
حافظ الشيخ على ما تحت يديه من أموال المحسنين، فلم يكن يصرف شيئًا منها إلا في موضعه، فلا يُعطي أحدًا من أموال الصدقات والزَّكوات إلا إذا ثبتت حاجته بالبينة الشرعية، أما مَن جاء يطلب العطاء وليس معه ما يُثبت حاجته، ولا يحمل شفاعةً من أحد المشايخ المعروفين لدى سماحته؛ فإن الشيخ يعطيه من ماله الخاص.
يقول الشيخ محمد الموسى: "إذا تقدَّم إليه بعضُ الفقراء وشكى إليه حاجةً، أو قال: أريد السفر إلى مكة أو المدينة، وليس معه شيءٌ، ولا يحمل إثباتًا من مشايخ معروفين، أو من أناس يعرفهم سماحة الشيخ قال: أعطوه مئة أو مئتين أو ثلاثمئة"، ويقول: إذا حددتُ المبلغ إلى ثلاثمئة ريـال فإني أعني حسابي الخاص". [8]

بكاؤه ورقة قلبه:
امتلك شيخنا - رحمه الله - قلبًا حيًّا عامرًا بذكر الله سبحانه، محبًّا لكل ما يُقربه من ربه جلَّ وعلا، ولأن القلب هو الملِكُ والجوارح جنوده، فقد كان قلبه يخشع وجوارحه تسكن إذا ذُكر الله، فكثيرًا ما يتأثر ويبكي إذا سمع تاليًا للقرآن، أيًّا كان صوت التالي، أو حسن ترتيله من عدمه، فقد كان دائمًا يشعر بحلاوة القرآن ويتدبر معانيه.
وكان شيخنا يتأثر ويبكي في مواطن أخرى، منها:
إذا قُرئ عليه شيءٌ من رقائق السُّنة النبوية، كأخبار الجنة والنار والحساب ونحو ذلك.
عند سماعه لحادثة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا حادثة الإفك، وقصة الثلاثة الذين خلّفوا، وما شابه ذلك من السيرة النبوية المطهرة.
إذا سمع شيئًا يتعلَّق بتعظيم القرآن أو السنة، يقول الشيخ محمد الموسى: "أذكر أنني كنت أقرأ عليه في كتاب (القول القويم) للشيخ العلامة حمود التويجري - رحمه الله - ومرَّ أثناء القراءة كلام للشيخ حمود حول تعظيم السنة، فالتفتُّ فإذا دموع سماحة الشيخ تتحادر على خديه.
إذا قُرئت عليه سيرة أحد العلماء من (البداية والنهاية) أو (تهذيب الكمال) أو (سير أعلام النبلاء).
عند ذكر شيخه محمد بن إبراهيم - رحمه الله - حتى إنه أحيانًا لا يستطيع مواصلة الكلام من شدة التأثر والبكاء.
إذا توفي أحد العلماء المشهورين أو مَن لهم بلاء حسن في الإسلام، فقد بكى عند وفاة الشيخ صالح العلي الناصر، والشيخ حمود التويجري، والشيخ صالح بن غصون، والشيخ عبدالله بن محمد بن حميد، كما بكى عند وفاة الرئيس الباكستاني ضياء الحق.
إذا سمع أخبار الاضطهاد والتعذيب التي مرَّت بالمسلمين أو تمر بهم في بعض البلدان.
عندما يعرض عليه بعضُ المساكين أو المظلومين حالهم البائسة، فإنه يتأثر وربما يبكي.
وكثيرًا ما يبكي إذا صلى بالناس وفي أثناء الدروس، ولكنه يتمالك نفسه.
كما كان يبكي عند الدعاء، خاصةً في الأماكن المقدسة: كعرفة، والصفا والمروة، وغيرهما. [9]
يقول الشيخ صلاح الدين عثمان - أمين مكتبة منزل سماحة شيخنا: "الشيخ - رحمه الله - كان له قلب رقيق يتأثر بكل ما يسمعه من الآيات والأحاديث النبوية والسيرة النبوية، وسير صحابة رسول الله .
فكم من آيةٍ من كتاب الله وقف الشيخ عندها متأثرًا باكيًا لما فيها من الوعيد، وكذا ما أعده الله لعباده الصالحين، وكم من حديثٍ أثار أشجان الشيخ فبكى متأثرًا، خاصة في قصة الإفك، وكذا توبة كعب بن مالك، وكذلك كنت عنده مرة فسأله أحد الحاضرين عن سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - فتذكر الشيخ وبكى متأثرًا جدًّا، وهكذا دومًا عندما يمر ذكر سماحة الشيخ - رحمه الله - يبكي". [10]
ويقول الشيخ سعد بن عبدالله البريك: "ذُكر له في بعض المجالس حالة من واقع المجاهدين الأفغان آنذاك، وما يُصيبهم من بردٍ وجوعٍ، فأخذت عينه تدمع حتى قام من مجلسه وهو يبكي، وقد عرض له مرةً في مجلسه أن المسلمين في جنوب الفلبين قد أصابتهم مجزرة على يد السفاح النصراني ماركس، صرع فيها عدد من المسلمين على يد الطُّغاة هناك، فبكى الشيخ بكاءً اهتزَّ به باكيًا كلُّ مَن حضر مجلسه". [11]
ويقول فضيلة الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله السالم: "حدثني صديق - وهو إمام مسجد بمكة المكرمة - أنه كان يصلي بجماعته ثم ينطلق بسيارته ليدرك درس سماحة الشيخ عبدالعزيز في مسجده بحي العزيزية، وقد ذكر أنه ذات مرة: وكان موضوع الدرس عن حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما الذي نصّه كما جاء في (صحيح البخاري) قال: بعث رسول الله ﷺ بعثًا قِبَل الساحل، وأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمئة، فخرجنا وكنا ببعض الطريق ففني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجُمع، فكان مزودي تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلًا قليلًا، حتى فني، فلم يكن يُصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: ما تُغني عنكم تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت ... وفي (صحيح مسلم) من رواية أبي الزبير أنه أيضًا سُئل عن ذلك فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت، فقلت: كيف تصنعون بها؟ قال: نمصّها كما يمصّ الصبيُّ الثَّدي، ثم نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل.. وعند بلوغ نهاية الحديث من أن نصيب كلّ واحدٍ من هؤلاء الصحابة تمرة واحدة يمصها يُسكت بها جوعه، وهو يجاهد في سبيل الله؛ عند ذلك انفجر الشيخ عبدالعزيز - رحمه الله رحمة الأبرار - في نشيج متصل وبكاء متواصل دام - كما يقول محدثي - سبع دقائق، ذلك أنه يعيش بأحاسيسه الإيمانية مع مواكب الأخيار، ويتأسَّى بأحوالهم وما نالهم من مكابدة العيش في هذه الدنيا الفانية.
وقد شرح الشيخ - رحمه الله - هذا الحديث ودموعه تهطل من خشية الله، وصوته يتهدج بين المستمعين إليه والمتحلّقين حوله، وهو يصف لهم حالة صحابة رسول الله ﷺ من شظف العيش وشكرهم لله، وكيف نعيش نحن في عصرنا الحاضر، ونِعَم الله علينا كثيرة، ولكننا لا نقدرها حق قدرها، ولا نحمد الله عليها كما يجب أن يُحمد، وإنما كثير منا يرمون بها في النِّفايات، وهذا ما أوصلنا إلى الحالة الواهنة التي نعيشها، وقد كان الصحابة مع قلَّة إمكاناتهم هزموا الدول العظمى في عهدهم؛ لأنهم كانوا يعرفون حق الله عليهم، ويُقَدِّرون نِعَمه. ومضى سماحته يتحدث طويلًا في هذا المجال". [12]
أما طريقته في البكاء: فلم يكن يرفع صوته بالبكاء ولا يُحب ذلك، ولكنه يبكي بصوتٍ خافتٍ جدًّا لا يكاد يُسْمَع، وربما رُؤِي الدمع يُهراق من عينيه. [13]

ثقته بربه وحسن توكله عليه:
كان سماحة شيخنا - رحمه الله - عظيم الثقة بربه سبحانه، حسَن التوكلِ عليه، فلذلك كان يُعطي عطاء مَن لا يخشى الفقر، ويقوم على الفقراء والمساكين والدّعاة بالرعاية والنفقة حتى تنفد أمواله ويستدين من أجلهم، ومع ذلك لم يُفكِّر يومًا في التوقف عن رعايتهم وقضاء حاجاتهم، حتى إن ديونه بلغت في سنةٍ من السنين عشرة ملايين ريـال؛ مما جعل أحد كُتَّابه يقول له: إنك مديون بمبلغ عشرة ملايين ريـال، والأمر صعب! فأجابه الشيخ الواثق بربه قائلًا: سبِّح، سبِّح، ولدتُ من بطن أمي وأنا عارٍ وليس عليَّ ثوب ولا غيره، ورزقني الله، فالحمد لله على نعمه. [14]
وجاءه ذات يوم كشفُ حسابٍ من مصرف السبيعي - الذي يتعامل معه الشيخ - موضَّح فيه أن الشيخ مدينٌ للمصرف بثلاثة ملايين وسبعمئة ألف ريـال، فقال بعضُ الموظفين: يا سماحة الشيخ، توقف عن التحويل على السبيعي، فالحساب مدينٌ بما ترى. فضحك الشيخ وقال: أبشروا بالخير.
فكتب رسالةً بذلك لخادم الحرمين الشريفين في ذلك الوقت الملك فهد - رحمه الله - فأمر جلالة الملك على الفور بدفع المبلغ المذكور؛ لعلمه بأن الشيخ ما استدان من أجل نفسه وإنما لقضاء حوائج المسلمين، فلما علم الشيخ قال لموظفيه: ألم أُخبركم بأن فرج الله قريب. [15]
ولم يكن الشيخ - رحمه الله - يتردد في رعاية المشاريع الدعوية والخيرية وتوفير الأموال اللازمة لها، أيًّا كانت هذه الأموال، حتى وإن لم تكن تلك الأموال تحت يده، وما ذلك إلا لثقته في إعانة الله له، فقد قال الشيخ عقيل العقيل - مدير مؤسسة الحرمين الخيرية - لشيخنا ذات يوم: يا سماحة الشيخ، عندنا مشروع دعوي ضخم في بلد كذا، ولا نستطيع إيجاد نفقته، فما رأي سماحتكم؟ فقال شيخنا: اكتبوا لنا ما ترونه، واعرضوه على مجموعةٍ من المؤسسات، واتفقوا مع أقلهم عرضًا. فقال الشيخ عقيل: إن المبلغ كبير جدًّا يا سماحة الشيخ. فقال شيخنا: ولو كان. فقال الشيخ عقيل: إنه فوق ما تتصورون يا سماحة الشيخ. فقال سماحته: كم المبلغ؟ قال: سبعة ملايين ريـال. فقال سماحة الشيخ: ولو كان عشرة ملايين يُيسرها الله. [16]
فقد كان - رحمه الله - يُنفق في سبيل الله تعالى ولا يخشى الفقر، وكيف يخشاه والله تعالى يقول: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39]، وجاء في الحديث القدسي: يا ابن آدم، أَنْفِقْ أُنْفِقُ عليك[17].
فرحمه الله، وأجزل له المثوبة والعطاء على ما قدَّمه لدينه وأمته.
 
  1. إمام العصر، لناصر الزهراني (68،67).
  2. ينظر: المصدر السابق.
  3. مجلة الدعوة، عدد (1693). بواسطة: ترجمة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، لعبدالعزيز القاسم (176،175).
  4. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (155).
  5. المصدر السابق (160-163).
  6. إمام العصر، لناصر الزهراني (191).
  7. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (136،135).
  8. المصدر السابق.
  9. ينظر: المصدر السابق (123-125)، والإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (358،319)، وموسوعة إمام المسلمين في القرن العشرين، لعبدالعزيز أسعد (34/1).
  10. موسوعة إمام المسلمين في القرن العشرين، لعبدالعزيز أسعد (68/1)، والإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (319).
  11. مجلة المدينة، عدد (13193). بواسطة: سيرة وحياة الشيخ ابن باز، لإبراهيم الحازمي (1/ 108)، ومواقف مضيئة، لحمود المطر (100).
  12. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (176-178).
  13. ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (123).
  14. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (219).
  15. ينظر: جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (127،126).
  16. المصدر السابق (128،127).
  17. متفق عليه؛ البخاري (5352)، ومسلم (993).