أحسن الله لنا العزاء في فقيد العلم والعلماء

صالح بن علي الجار الله
إمام وخطيب جامع العريجاء القديمة

لما بلغ أمير المؤمنين عبدالله بن الزبير نعي أخيه مصعب بن الزبير أمير العراق، صعد المنبر فجلس عليه ثم سكت.. فجعل لونه يحمر مرة، ويصفر أخرى.
فقال رجل من قريش لآخر بجانبه: (ما له لا يتكلم، فوالله إنه للخطيب اللبيب!؟).
فقال له الرجل: (لعله يريد أن يذكر موت سيد العرب فيشتد ذلك عليه، وهو غير ملوم إن جزع).
الناس رجلان: فمتزود من الدنيا، ومتنعم فيها.
فأي الرجلين يا ترى كان والدنا - الشيخ عبدالعزيز بن باز - يرحمه الله رحمة واسعة؟! إن الصغير قبل الكبير ليحسبه الرجل الأول.
لقد نعت قيادتنا الرشيدة - والخطب جلل - إلى كل مسلم في أرجاء المعمورة، إلى الأمة الإسلامية المكلومة، نعت بثكل وأسى عالمنا الأكبر.
إني أحسب أن الرجل وضع له القبول في الأرض.
إن كل من جاب الآفاق وسافر هنا وهناك ليلمس عظيم التقدير الذي يحظى به فقيدنا العزيز بين المسلمين في كل مكان، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو من توفيقه سبحانه وتعالى للشيخ.
أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض..الحديث.
فعلى الرغم من أن الشيخ عبدالعزيز لم يسافر خارج المملكة - ناهيك أن يزور دول الغرب - إلا أن الجاليات الإسلامية هناك مثلا، لتكن له المحبة والاحترام، ويحرصون كل الحرص على معرفة أقواله ومتابعة فتاواه تجاه ما يستجد من أمور في ربوع بلادهم، لقد بذل الشيخ عبدالعزيز بن باز لأمته نفسه ووقته لله، يريد لها نجاحا، وللإسلام صلاحا، فبذل عمله بتهذيب العقيدة في النفوس، وتربية النشء الحديث على الوعي الإسلامي الصحيح.. دخل إلى الإصلاح من باب الدين والتقى ليجمع للمسلمين بقدوته ودروسه وفتاواه في صلاح حالهم ومآلهم، ودنياهم وآخرتهم.
كان سلفي المذهب، وقافاً على الكتاب والسنة، ينبذ كل دخيل ومتفلسف.. يقيناً منه أن الخطر كل الخطر على المسلمين أن يكون الدين في نظرهم تابعاً للعقل، أو يكون العقل هو الحكم بينهم وبينه؛ بل آمن أن الخير كل الخير في أن يكون الدين حاكما والعقل مفسرا ومبينا على نبراس الهدي النبي الشريف وكما فهم سلفنا الصالح.
* * *
كان الشيخ يرأس إدارات الفتوى والبحوث والدعوة، ويرأس هيئة كبار العلماء، ويرأس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي.
وظل لسنين عديدة رئيسا للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ولم تكن هذه المناصب كلها لتعزله عن الناس، بل ظل بيته مفتوحا وقلبه مفتوحا لكل ذوي حاجة من أبناء المسلمين، مادية أو علمية لا يغلق بابه في وجه أحد، ولا يضيق صدره بلقاء أحد، ولا يدخر وسعا في مساعدة أحد.
يقول بعض من تتلمذ عليه أيام كان نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية.
لقد عرفت فيه الأخلاق العالية والمعاملة الطيبة لجميع أبنائه الطلبة، فعندما كنا نتابع الدروس معه - سواء في الجامعة أو في المسجد النبوي أو في بيته - لم نكن نشعر إلا اننا بين يدي والدنا ومربينا.
لقد كان - رحمه الله - يسأل كل واحد منا عن ظروفه الخاصة وعن احتياجاته، ويبذل من وقته وماله الشيء الكثير لإسعاد سائليه؛ بل لا أذكر أبدا أنه فرّق يوما بين طالب وآخر مهما كانت جنسيته وهويته.
أشهد أنه كان كريما باذلا.. كان بيته ملجأ من لجأ إليه.. ولم أره يوما - وقد عاشرته لسنوات - رد سائلا سأله ما ظنك برجل كان جميع من حوله يخاطبونه باسم الوالد؟
اتسم عالمنا المصلح الكبير بالرفق والأناة، والحكمة والسياسة فملك العقول والقلوب معا، حرص - رحمة الله عليه - أن يخلص لله في دينه، جادا مثابرا، لا تأخذه فيه هوادة، ولا عنه سِنة، يتحمل الأذى ويستسهل الوعر في سبيل أداء أمانة العلم والتفرغ لتربية الدعاة، والمصابرة عليهم.. لا يجعل لليأس عليه سبيلا، ولا للهوان على نفسه سلطانا.
لقد ودعت الأمة الإسلامية علما من أعلامها الأفذاذ علامة السعودية سماحة الشيخ الوالد عبدالعزيز بن عبدالله بن باز.. ودعت جبلا من جبال العلم، وبحرا من بحور الفقه، ومحدثا وعمادا من أعمدة الدين، وركنا من أركان الأمة.
طالما استفاد من علمه المسلمون - ليس في بلاده فحسب - بل في أنحاء الجزيرة والخليج وفي شتى بقاع الأرض، استفدنا منه بالمشافهة وعبر الكتاب والمراسلة، وعن طريق الهواتف والإذاعة والشريط المسموع.
عاش الشيخ الفاضل عمره المبارك للعلم والدين، يعلم ويدرس.. ويجيب ويفتي، وينصح ويدعو ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحكمة بالغة.
أفضى الشيخ إلى ربه وترك لنا بحسن خلقه ذكرى سيرته الزاكية.
إن الخلق هو أداء الواجب لذاته، بقطع النظر عما يترتب عليه من النتائج، فمن أراد أن يعلم الناس مكارم الاخلاق فليحي ضمائرهم، وليبث في نفوسهم الشعور بحب الفضيلة والنفور من الرذيلة بأي وسيلة شاء.. ومن أي طريق أراد، وهنا فقط تكون لبابته وكياسته.
ليست الفضيلة طائفة من المحفوظات تحشى بها الأذهان، بل ملكات تصدر عنها آثارها.. صدور الشعاع عن الكوكب، والأريج عن الزهر.. وبعد فليس الذي يبكي صديقا كان يأنس بحديثه، أو عالما كان ينتفع بعلمه، أو كريما كان يستظل بظلال مروءته وكرمه، كمثل الذي يبكي شظية قد طارت من شظايا قلبه.
أيها المسلمون خذوا العبرة من سلفكم الصالح (إنما أعطاكم الله الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى، فلا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية).
هل يستطيع المصلحون أن يكونوا كذلك ليصلحوا في الآخرين ما أصلح المصلحون في الأولين. أملنا في الله كبير.
إني لأرفع خالص عزائي إلى مقام خادم الحرمين الشريفين وإلى سمو ولي عهده الأمين وإلى علماء المملكة وشعبها المؤمن وإلى عالمنا العربي والإسلامي بفقد ركن علمي مكين قلَّ من يقوم في عصرنا بدوره.. ويا له من دور أعاد إلى أذهاننا شريطا تاريخيا مجيدا من سير سلفنا الصالح .
ولأسرة الشيخ أقول: عوضتم أجرا من فقيد وادخر الله عنده جميل صبركم، وأوصيكم بالرضاء من الله بقضائه والتنجز وعد به من ثوابه، فإن الدنيا دار زوال فلابد من لقاء الله، إن لله ما أعطى ولله ما أخذ وكل شيء عنده بمقدار، ولا نقول إلا ما يرضي الرب (إنا لله وإنا إليه راجعون)[1].
  1. جريدة الجزيرة، السبت 6 صفر 1420هـ .