في أساليب التربية

كان الشيخ - رحمه الله - يدرك أن جانب التربية مهم جدًا، فاعتنى به، واستخدم الأساليب النافعة المؤدية إليه، والتي بها صلاح الفرد والمجتمع، ويمكن أن ندرك بعض هذه الأساليب من حياته العملية.
ومن خلال ما كتب عنه تلاميذه ومعاصريه [1]، وما خلفه من مواد علمية يمكن أن نذكر بعض ما ذكر من هذه الأساليب:

أولًا: التربية بالقدوة:
يؤكد الشيخ - رحمه الله - على استخدام هذا الأسلوب ويشير إلى أهميته بقوله: "الذي أنصح به إخواني في هذه البلاد وفي كل مكان أن يتحروا طريقة المصطفى ﷺ، وطريقة أصحابه في القول والعمل، ويكونوا أسوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وأن يبدؤوا بأنفسهم في كل خير وفي ترك كل شر حتى يكونوا قدوة عملية في أعمالهم وأحوالهم وأخلاقهم ورفقهم ورحمتهم وإحسانهم". [2]
ويقول في موضع آخر: "هكذا يكون العالم سواء كان مدرسًا أو قاضيًا أو داعيًا إلى الله، أو في أي عمل، فواجبه أن يكون قدوة في الخير، وأن يكون أسوة في الصالحات، يعمل بعلمه ويتق الله أين ما كان، ويرشد الناس إلى الخير، حتى يكون قدوة صالحة لطلابه، ولأهل بيته ولجيرانه ولغيرهم ممن عرفه، يتأسون به: بأقواله وأعماله الموافقة لشرع الله ". [3]
وقد كان - رحمه الله - قدوة في فعل الخيرات، وعمل الصالحات، والمسارعة في كشف الكربات عن أصحاب الحاجات.
أما جوانب القدوة فيه فكثيرة، فيعد - رحمه الله - قدوة في جانب الاعتقاد الصحيح، والحرص عليه، والذب عنه، وإرشاد الناس إلى المعتقد الصحيح، وقدوة في جانب العبادة، وقيام الليل وصيام التطوع، وقراءة القرآن، وكثرة الذكر، وقدوة في جانب الأخلاق وحسن المعاملة، وقدوة في الدعوة إلى الله والحرص على نشرها، وقدوة في العلم والعمل، والتعليم... فأي جانب تجده قدوة صالحة.

ثانيًا: التربية باستخدام الرفق:
لقد امتثل الشيخ - رحمه الله - هذا الأسلوب في دعوته وتعليمه وتربيته، وحدَّث عنه طلابه الشيء الكثير في هذا الجانب.
ويشير إلى أهمية هذا الأسلوب في جملة من أقواله ومنها قوله: "والرفق في الكلام وعدم الغلظة إلا عند الضرورة إليها كما قال : وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وقال تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] يعني اليهود والنصارى إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46] فلا بد من العناية بالرفق كما قال النبي ﷺ: إن الرفق لا يكون في الشيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه [4]، وقال ﷺ: من يحرم الرفق يحرم الخير كله[5]، فعلى المؤمن في دعوته الرفق والأسلوب الحسن حتى يستجاب له، وحتى لا يقابل بالرد أو بالأسلوب الذي لا يناسب الداعي إلى الله، فإن بعض الناس عند الشدة قد يقابل بسببها بالسب والشتم والأسلوب الرديء مما يزيد الطين بلة، ولكن متى كان الداعي إلى الله رفيقًا ذا أسلوب صالح فإنه لن يعدم - إن شاء الله - قبول دعوته، أو على الأقل المقابلة الحسنة والكلام الطيب الذي يرجى من ورائه أن يتأثر المدعو بالدعوة، والله ولي التوفيق". [6]

ثالثًا: التربية بالقصة:
القصة من أحب الوسائل التصويرية إلى النفوس؛ لأنها تدخل إليها مباشرة فتؤثر فيها، وتشد انتباه السامعين، وتشوقهم إلى الاستماع والاستفادة منها.
والشيخ - رحمه الله - كان يستخدم هذا الأسلوب في عدد من دروسه فمثلًا في قصة أصحاب الكهف يقول: "أهل الكهف بينهم الله في كتابه العظيم، والأقرب ما قاله جماعة من أهل العلم: أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، هذا هو الأقرب والأظهر، وهم أناس مؤمنون، فتية آمنوا بربهم وزادهم الله هدى، فلما أيقظهم الله بعد أن ناموا المدة الطويلة، توفاهم الله بعد ذلك على دينهم الحق، هؤلاء هم أهل الكهف كما بينهم الله في كتابه الكريم، فتية آمنوا بربهم فزادهم الله هدى وناموا النومة الطويلة بإذن الله، ثم ماتوا بعد ذلك وبنى عليهم بعض أهل الغلبة هناك - من الأمراء والرؤساء - مسجدا". [7]
ثم نبه على حكم البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها وذكر النصوص الدالة على حرمة ذلك، فقال:
"وقد أخطؤوا وغلطوا في ذلك؛ لأن القبور لا يجوز أن تبنى عليها المساجد، وقد نهى رسول الله ﷺ عن ذلك، ولعن من فعله فقال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد[8] وحذر من البناء على القبور وتجصيصها واتخاذ المساجد عليها، كل هذا نهى عنه النبي ﷺ ولعن من فعله.
فلا يجوز للمسلمين أن يبنوا على القبور مساجد، ولا قبابا ولا غير ذلك، بل تكون القبور ضاحية مكشوفة غير مرفوعة ليس عليها بناء، لا قبة ولا مسجد ولا غير ذلك، هكذا كانت قبور المسلمين في عهد النبي ﷺ، وفي عهد الخلفاء الراشدين حتى غير الناس بعد ذلك وبنوا على القبور، وهذا من الجهل والغلط ومن وسائل الشرك، قال النبي ﷺ: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالت عائشة: رضي الله عنها يحذر ما صنعوا[9] وقال ﷺ: لما أخبرته أم حبيبة وأم سلمة أن في أرض الحبشة عدة كنائس فيها تصاوير قال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، ثم قال: أولئك شرار الخلق عند الله متفق على صحته [10]، فأخبر أنهم شرار الخلق بسبب بنائهم على القبور واتخاذهم الصور عليها، أسأل الله السلامة.
وقال ﷺ فيما رواه عنه جندب بن عبدالله البجلي : إن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد؛ ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك أخرجه مسلم في صحيحه [11]، فنهى ﷺ في هذا الحديث العظيم عن اتخاذ القبور مساجد وحذر من هذا، وبين أنه عمل من كان قبلنا من المغضوب عليهم والضالين وهو عمل مذموم، وما ذاك إلا لأنه من وسائل الشرك والغلو في الأنبياء والصالحين، فلا يجوز للمسلمين أن يتخذوا قبابا ولا مساجد على قبور أمواتهم، بل هذا منكر ومن وسائل الشرك.
وهكذا لا يجوز تجصيص القبور والبناء عليها والقعود عليها، لما ثبت في صحيح مسلم عن جابر أن النبي ﷺ نهى عن ذلك، كما نهى رسول الله ﷺ عن الكتابة عليها أو إسراجها في أحاديث أخرى، وكل ذلك من باب سد الذرائع المفضية إلى الشرك والغلو، والله المستعان ولما في القعود عليها من الإهانة لأهلها". [12]
فالشيخ - رحمه الله - بدأ بذكر القصة ثم أخذ يبين الخطأ الذي وقعوا فيه حتى يتجنبه المسلم، وبين الحكم الشرعي في فعلهم ومن عمل عملهم من هذه الأمة.

رابعًا: التربية بالموعظة الحسنة:
وقد كان الشيخ - رحمه الله - يستخدم هذا الأسلوب في دروسه ومحاضراته، وردوده على الآخرين، كما أنه كان يوجه طلابه لاستخدام هذا الأسلوب؛ لما له من الأثر النافع والقبول الحسن،  فنجده يقول في وصية لطلابه.
"أما أثر المعاصي في الحرمان من العلم النافع فمعلوم بالنص والواقع كما قال الله سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] ولا ريب أن حرمان العلم النافع من أعظم المصائب، وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولما جلس الشافعي بين يدي مالك - رحمة الله عليهما - قال مالك للشافعي: (إني أرى الله قد ألقى عليك من نوره فلا تطفئه بالمعاصي) أو كما قال رحمه الله.
وقال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي"[13]

وقال رحمه الله: "فالنصح يكون بالأسلوب الحسن والكتابة المفيدة والمشافهة المفيدة، وليس من النصح التشهير بعيوب الناس، ولا بانتقاد الدولة على المنابر ونحوها، لكن النصح أن تسعى بكل ما يزيل الشر ويثبت الخير بالطرق الحكيمة وبالوسائل التي يرضاها الله ". [14]

خامسًا: التربية بالأحداث:
التربية بالأحداث من الوسائل النافعة والفعالة في التربية؛ لأنها تؤثر في النفس تأثيرًا بالغًا، والشيخ - رحمه الله - لم يكن يترك الأحداث تمر عليه دون أن يكون له فيها توجيه أو إرشاد، بل كان يستغل تلك الأحداث في تربية طلابه وتوجيه عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بما يتناسب مع تلك الأحداث، والمواقف والأحداث التي كانت في حياته كثيرة جدًّا منها على سبيل المثال: حادثة التفجير بمكة.
أصدر بيانًا جاء فيه: "بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ. لقد استنكر العالم الإسلامي ما حدث في مكة المكرمة من تفجير مساء الاثنين 7/ 12/ 1409هـ واعتبروه جريمة عظيمة ومنكرًا شنيعًا، لما فيه من ترويع لحجاج بيت الله الحرام، وزعزعة للأمن وانتهاك لحرمة البلد الحرام، وظلم لعباد الله، وقد حرم الله سبحانه البلد الحرام إلى يوم القيامة، كما حرم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم إلى يوم القيامة، وجعل انتهاك هذه الحرمات من أعظم الجرائم، وأكبر الذنوب، وتوعد من هَمّ بشيء من ذلك في البلد الحرام بأن يذيقه العذاب الأليم، كما قال سبحانه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25] فإذا كان من أراد الإلحاد في الحرم متوعدًا بالعذاب الأليم وإن لم يفعل - فكيف بحال من فعل - فإن جريمته تكون أعظم، ويكون أحق بالعذاب الأليم.
وقد حذر الرسول ﷺ أمته من الظلم في أحاديث كثيرة، ومن ذلك ما بينه للأمة في حجة الوداع حين قال ﷺ: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت. فقال الصحابة: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إلى الأرض ويقول: اللهم اشهد .. اللهم اشهد[15].
وهذا الإجرام الشنيع بإيجاد متفجرات قرب بيت الله الحرام من أعظم الجرائم والكبائر". [16]

سادسًا: التربية بالممارسة والعمل:
يشير الشيخ - رحمه الله - إلى أهمية العمل عند المربين والعلماء والدعاة وأنه من الواجب عليهم أن يكونوا قدوة وذلك بأعمالهم وأن الناس ينتفعون بالأعمال والسِّيَر أكثر من الأقوال فيقول: "قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] هذه الآية العظيمة تبين لنا أن الداعي إلى الله ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى الله بلسانه، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضًا، ولهذا قال بعده: وَعَمِلَ صَالِحًا [فصلت:33] فالداعي إلى الله يكون داعية باللسان، وداعية بالعمل، ولا أحسن قولًا من هذا الصنف من الناس، هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة، وهم يوجهون الناس بالأقوال والأعمال، فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم.
وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام، دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال والسيرة، وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون بالأقوال، ولا سيما العامة وأرباب العلوم القاصرة فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها، فالداعي إلى الله من أهم المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة وذا عمل صالح وذا خلق فاضل". [17]
هذه جملة من الأساليب التربوية التي استخدمها الشيخ في دعوته إلى الله، والتي تدل على أنه كان مهتمًا بجانب التربية حريصًا عليها، عارفًا بأساليبها ووسائلها النافعة التي لها الأثر الكبير في الآخرين.
  1. انظر: الآراء التربوية عند الإمام ابن باز، للدكتور عبدالعزيز بن محمد الخطابي (ص 287).
  2. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (301/7).
  3. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (312/2).
  4. رواه مسلم (2594).
  5. رواه مسلم (2592).
  6. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (322/7).
  7. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (198/6-199).
  8. رواه البخاري (436)، مسلم (529).
  9. رواه البخاري (436)، مسلم (529).
  10. رواه البخاري (427)، مسلم (528).
  11. صحيح مسلم (532).
  12. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (198/6-199).
  13. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (242/6-243).
  14. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (306/7).
  15. رواه مسلم (1218).
  16. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (248/5).
  17. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (110/3).