ما هكذا الدعوة إلى صلاح الأوضاع يا حمد!

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
اطلعت على ما نشر في جريدة السياسة بعددها 668 في 19/8/1404 هـ لكاتبه حمد السعيدان، وقد نسب إلي هداه الله كلاما عن حلق اللحية تجرأ فيه بشيء لم أقله، ومما ذكر أني قلت: أي فتوى تصدر باسمي يجب أن تكون ممهورة بخاتمي ومصدقة من وزارة الأوقاف الإسلامية

فقد اطلعت على ما نشر في جريدة السياسة بعددها 668 في 19/8/1404 هـ لكاتبه حمد السعيدان، وقد نسب إلي هداه الله كلاما عن حلق اللحية تجرأ فيه بشيء لم أقله، ومما ذكر أني قلت: أي فتوى تصدر باسمي يجب أن تكون ممهورة بخاتمي ومصدقة من وزارة الأوقاف الإسلامية.
وهذا الكلام ظاهر البطلان لأني لم أشترط يوما ما لم
لم أشترط يوما ما تصديق وزارة الأوقاف الإسلامية على ما يصدر مني من الفتاوى
تصديق وزارة الأوقاف الإسلامية على ما يصدر مني من الفتاوى. ثم استرسل في الكلام عن حلق اللحية وغيرها وزعم أن قول النبي ﷺ: خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى يقتضي بهذا العصر أن نحلق اللحى لأن المجوس واليهود والسيخ وغيرهم يطلقون اللحى، وقال: (وعليه يجب مخالفة هذه الفئات نحلق لحانا، وقد قام رجال الأزهر بتطبيق هذا الحديث وهو مخالفة المشركين وغيرهم وحلقوا لحاهم) إلى آخر ما قال.
ولا شك أن هذا جرأة من الكاتب وسوء أدب منه مع سنة رسول الله ﷺ، فبيانه ﷺ واضح وأمره واجب الامتثال والتنفيذ ويخشى على مخالفه من العاقبة السيئة، كما قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] وأمره ﷺ بإعفاء اللحية واضح، وتنفيذه واجب إلى قيام الساعة سواء وفر الكفار لحاهم أم حلقوها، وموافقتهم لنا في شيء من شرعنا كإعفاء اللحية لا يقتضي أن نخالف شرعنا، كما أن دخولهم في الإسلام أمر واجب عليهم ومحبوب لنا ونحن مأمورون بدعوتهم إلى ذلك ولا يقتضي ذلك خروجنا من الإسلام إذا دخلوا فيه حتى نخالفهم، بل علينا أن ندعوهم إلى دين الله وألا نتشبه بهم فيما خالفوا فيه شرع الله، وهذا أمر معلوم عند جميع أهل العلم.
الجرأة من الكاتب في حمل الحديث الشريف على وجوب حلقها؛ لأن بعض المشركين تركوا حلقها جرأة شنيعة في نشر الباطل والدعوة إليه

وهذه الجرأة من الكاتب في حمل الحديث الشريف على وجوب حلقها؛ لأن بعض المشركين تركوا حلقها جرأة شنيعة في نشر الباطل والدعوة إليه، ثم هي مخالفة للواقع فليس كل الكفار قد وفروا لحاهم بل فيهم من يعفيها وفيهم من يحلقها.
ولو فرضنا أنهم كلهم أعفوها لم يجز لنا أن نخالف أمر الرسول ﷺ فنحلقها لمخالفتهم، وهذا لا يقوله من له أدنى علم وبصيرة بشرع الله عز وجل، ويلزم عليه لوازم باطلة ومنكرات كثيرة.
وأما ما ذكره عن شيوخ الأزهر من كونهم حلقوا لحاهم لما رأوا بعض الكفار قد أعفاها فهذا لو سلمنا صحته لا حجة فيه، فإن مخالفة بعض المسلمين لما شرعه الله لا يحتج بها على ترك الشرع المطهر، بل الواجب الإنكار على من خالف الشرع والتحذير من الاقتداء به، لا أن يحتج بعمله على مخالفة الشرع. وكثير من العلماء قد خالفوا الشرع المطهر في مسائل كثيرة إما لجهل بالدليل، وإما لأسباب أخرى، ولا يجوز أن يكونوا حجة في جواز مخالفة ما علم من الشرع لكونهم لم يأخذوا به، بل غاية ما هناك أن يعتذر عنهم بأن الشرع لم يبلغهم أو بلغهم من وجه لم يثبت لديهم أو لأعذار أخرى، كما بسط ذلك الإمام العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الجليل: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وقد أجاد فيه وأفاد وأوضح أعذار أهل العلم فيما خالفوا من الشرع فليراجع فإنه مفيد جدا لطالب الحق.
أنصح الكاتب (حمد) بأن يتقي الله ويحذر لمز الملتحين وسوء الظن بهم، كما أنصحه بأن يحسن الظن بجميع إخوانه المسلمين الذين يحرصون على تطبيق الشريعة

وإني أنصح الكاتب (حمد) بأن يتقي الله ويحذر لمز الملتحين وسوء الظن بهم، كما أنصحه بأن يحسن الظن بجميع إخوانه المسلمين الذين يحرصون على تطبيق الشريعة ويتتبعون سنة الرسول ﷺ ويتأسون به في أقواله وأعماله، وأن يحملهم على أحسن المحامل عملا بقول الله عز وجل في سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11] ومعنى قوله: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي: لا يلمز بعضكم بعضا، واللمز: العيب، ثم قال سبحانه: يَا أَيُّهَاا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12] الآية، فأمر سبحانه باجتناب كثير من الظن وأخبر أن بعضه إثم وهو الظن الذي لا دليل عليه ولا أمارة شرعية ترشد إليه.
ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وهذا كله لا يمنع من نصيحة من أخطأ من أهل العلم أو الدعاة إلى الله في شيء، من عمله أو دعوته أو سيرته، بل يجب أن يوجه إلى الخير ويرشد إلى الحق بأسلوب حسن، لا باللمز وسوء الظن والأسلوب العنيف، فإن ذلك ينفر من الحق أكثر مما يدعو إليه، ولهذا قال عز وجل لرسوليه موسى وهارون لما بعثهما إلى أكفر الخلق في زمانه: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] وأخبر الله عن نبيه ﷺ بما جبله عليه من الرفق والحكمة واللين واللطف في الدعوة فقال سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] الآية وأمره سبحانه أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فقال عز وجل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وهذا الأمر ليس خاصا به ﷺ بل هو موجه إليه وإلى جميع علماء الأمة وإلى كل داع يدعو إلى حق، لأن أوامر الله سبحانه لنبيه ﷺ لا تخصه بل تعم الأمة جميعا، إلا ما قام الدليل على أنه خاص به، ولقول الله سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] الآية، ولقوله عز وجل: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]، وقوله سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَاا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]
وصح عن رسول الله ﷺ أنه قال: من يحرم الرفق يحرم الخير كله. وقال - عليه الصلاة والسلام -: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه وقال أيضا - عليه الصلاة والسلام -: إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف في أحاديث كثيرة تدل على أن الواجب على الدعاة إلى الله سبحانه والناصحين لعباده أن يتخيروا الأساليب المفيدة والعبارات التي ليس فيها عنف ولا تنفير من الحق، والتي يرجى من ورائها انصياع من خالف الحق إلى قبوله والرضى به وإيثاره والرجوع عما هو عليه من الباطل، وأن لا يسلك في دعوته المسالك التي تنفر من الحق ويدعو إلى رده وعدم قبوله.
وأسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه، والثبات عليه، والدعوة إليه على بصيرة، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن القول عليه سبحانه وعلى رسوله ﷺ بغير علم إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين[1].

  1. نشرت في مجلة البحوث الإسلامية، العدد 15 ص12- 15، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 2/ 347).